|
|
|
|
الفرق بين الزهد والتصوّف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإنّ كثيراً من النّاس تختلط عليه كثيرٌ من المُصطلحات والمفاهيم فلذلك تجدهم يخلطون في التعبير عن الأمور التعبير الصحيح الدقيق.
وإنّ من المصطلحات التي طالما خلط بينها العوام وبعض طلبة العلم مصطلحي الزُّهد والتصوُّف .. حيث نجد كثيرا من النّاس لا يكاد يُفرّق بينهما فينتج على ذلك الخلط مدح المذموم وذمّ الممدوح !
وإنّ معرفة الفروق بين المصطلحات من أهمّ وأوكد العلم الذي ينيلُ به صاحبه، ويسهل عليه الفهم الصحيح للإسلام والسنّة وبالتالي القيام بنشر العلم الصحيح، وبالمقابل فإنّ عدم التمييز بين الأمور وعدم معرفة الفروق بينها مظنّة لزلّة القدم والوقوع فيما يُذمُّ عليه.
(وقد أولى علماؤنا بهذا الأمر –أي معرفة الفروق- اهتماماً كبيراً فتجد فروقاً كثيرة منثورة في كتبهم، بل إنّه يوجد من جمع الفروق في كتاب مستقل، كالقرافي في ((الفروق))، والعسكري في ((الفروق اللغوية))، ومنهم من تمنّى جمع ذلك في كتاب كابن القيّم رحمه الله، ومنهم من عقد فصلاً في ذلك كالسيوطي في ((الأشباه والنّظائر))، و((المزهر في علوم اللغة وأنواعها))، وابن قتيبة في ((أدب الكاتب))، وما ذاك إلا لأهمية الأمر، ومعرفته يُعدُّ من المهمّات في مواضع ومن المُلح في مواضع أخرى) (1) وهو في هذا الموضع من المهمّات لأنّ كثيراً من الصوفية الدجاجلة يُمرّرون دجلهم وهراءهم عن طريق التلبيس والتدليس ومن ذلك تلبيسهم على العوام وإيهامهم أنّ التصوّف يعني الزُّهد !
فإدا سمع العوام ذلك ونظروا في سيرة السلف الصالح وتراجم رجالهم وجدوا: فلان الفلاني الزاهد العابد... فيظنّون أنّ فلاناً من السلف كان صوفياً لما ترسّخ في عقولهم وأذهانهم أنّ الزُّهد هو هو التصوّف ! وهذا ما يرمي إليه الصوفية .. إيهام النّاس أنّ دجلهم من عمل السلف الصالح وأنّهم ما ورثوا ما هم عليه إلا منهم !!
فانظر مثلا إلى هذا المدعو محمّد عفيف الزعبي حين قال في تعليقه على كتاب ((الإتحافات السَنيّة بالأحاديث القدسيّة)) للصوفي الكبير عبد الرؤوف المناوي تلميذ الصوفي الدجّال عبد الوهّاب الشعراني، قال المعلّق على الكتاب تحت الحديث رقم 48 (ص27) ((إنّي حرّمتُ الظلم على نفسي ...)) الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه: ((راويه هو إمام أهل الصوفية الذي قيل فيه: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة منه)) اهـ !!!
هكذا قال –عامله الله بعدله- وهو يعني بكلامه هذا الصحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه لما اشتُهر به رضي الله عنه من زهد في الدنيا وانقطاع عنها إلى الآخرة!!!
وهذا جهل منه أو مكر وخذيعة فإنّ أوّل من سُمّي بالصوفي: أبو هاشم الكوفي المتوفّى سنة 150 هـ كما ذكر ذلك صاحب كتاب ((كشف الظنون 1/222)) وكذلك ذكر السيوطي في أوائله. فكيف ينسب هذا المُفتري صحابياً جليلاً إلى دنس التصوّف وزبالة الصوفية ؟!
يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله: ((وبهذا ندرك أنّ إدخال الصحابة في زمرة الصوفية –كما يفعل بعض مؤرخي الصوفية- فيه عدوان على الحقيقة والحقّ والتاريخ)). (نظرات في التصوّف، عبد الرحمن الوكيل، مجلّة الهدي النّبوي عدد 10 سنة 1379هـ)
ولأجل ذلك وجدتني مُتحمّساً لأجمع في هذه الأسطر القليلة بعض الفروق بين مُصطلحي الزُّهد والتصوّف حتى يحي من حي عن بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة.
أخوكم: أبو عبد الله غريب الأثري القسنطيني.
02/08/2008م
أولى تلك الفروق:
إنّ الزُّهد قد جاءت به أحاديث نبويّة صحيحة كالحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك)).
أمّا التصوُّف فلم يرد لا في الكتاب ولا في السنّة ولا في كلام السلف الصالح وإنّما هو اصطلاحٌ دخيلٌ على الإسلام والمُسلمين ومن زعم خلاف هذا فليُتحفنا بالدليل الصحيح –وهيهات-
ثانياً: الزُّهدُ معروفٌ من ناحية اللغة العربية ومعناه كما ذكر ذلك الراغب الأصفهاني في مُفرداته (ص220 المكتبة التوفيقية): ((زهد: الزّهيد الشيء القليل، والزّاهدُ في الشيء الرّاغبُ عنهُ والرّاضي منه بالزّهيد أي القليل: ((وكانوا فيه من الزّاهدين)) اهـ
إذن فالزّاهد في الدنيا الراغبُ عنها والراضي منها بالقليل وهو معنى الحديث المُتقدّم آنفاً.
أمّا التصوّف فهو كلمة أعجمية لا أصل لها في لغة العرب، ومهما حاول المُبطلون أن يُزوّروا الحقائق ويقلبوها فلن يجدوا لهذه الكلمة في قواميس اللغة العربية ومعاجمها معنى ولا اشتقاق !
وهذا تحد منّي مفتوح لكل صوفي سوّلتْ لهُ نفسُه ادّعاء خلاف هذا أن يجد من كلام العرب ما يُشيرُ ولو من بعيد لأصل اشتقاق هذه الكلمة (صوفي) أو (التصوّف) أو (متصوّف)، وأنّى له ذلك وإمام الصوفية وواضع ركائز الدّين الصوفي عبد الكريم القُشيري يُؤكّدُ هذه الحقيقة الغائبة عن أذهان كثير من المنتسبين للتصوّف –إن كانت لهم أذهان- فيقول بالحرف الواحد: ((وليس يشهدُ لهذا الاسم –صوفي- من حيث العربية قياس، ولا اشتقاق. والأظهر فيه أنّه كاللقب)) اهـ (الرسالة للقشيري ص126)
ويقول حسن رضوان كما في كتاب ((روض القلوب)):
وقد جرى من حيث الاشتقاق **** في لفظة التصوّف النّفاق
وكل ذي قول له توجيه **** لقوله في نفسه وجيه
لكن القياس والقواعد**** في جملة الأقوال لا تُساعد
والبعض منهم قد يقوى قوله **** بالأخذ من صّوف بلبسهم له
فقوله هذا، وإن يكن وجد **** له قياس في كلامهم عهد
لكن أهل الحقّ لم يختصّوا **** بلبسه، ولا عليه نصّوا
فالأحسن التسليم في أقوالهم **** لهم وفيما كان من أحوالهم
أقول هذا بملئ فيَّ وأنا على يقين من أنّ هذه الكلمة أعجمية يونانية وهي كلمة مُعرّبة من كلمة سوفيا أو صوفيا (sofia) وهي تعني بلغة الإغريق ((الحكمة)) ومنه الفلسفة (philasofia) أي حبّ الحكمة، فـ (phila) تعني: حب، و (sofia) تعني: الحكمة.
هذا وقد قال بهذا الكلام جمعٌ كبيرٌ من أهل العلم أذكرُ منهم من قرأتُ لهم شخصياً تقرير ما سبق من أصل اشتقاق كلمة صوفي: العلامة البشير الإبراهيمي ، والعلامة مبارك الميلي كما في كتابه تاريخ الجزائر، والعلامة عبد الرحمن الوكيل، والعلامة محمّد جميل غازي، والعلامة إحسان إلهي ظهير رحمهم الله أجمعين.
وقرّر ذلك أيضاً المؤرّخ البيروني في كتابه ((تحقيق ما للهند من مقولة ص16) وهو في معرض الكلام عن معتقدات حكماء اليونان والهند التي تهدفُ إلى إثبات وَحدة الوجود، ثمّ عقب على هذا بقوله: ((وهذا رأي الصوفية)). انظر (نظرات في التصوّف، عبد الرحمن الوكيل، مجلّة الهدي النّبوي عدد 10 سنة 1379هـ) و (عبد الرحمن الوكيل وقضايا التصوّف، ص16-23 فتحي أمين عثمان) و (التصوّف المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير) و (هذه هي الصوفية، عبد الرحمن الوكيل) و (الفرقان بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان، ابن تيمية) وغيرها.
ثالثاً: إنّ السلف ذمّوا التصوّف ولم يذمّوا الزّهد بل قد صنّفوا فيه كُتُباً فمن ذلك:
· كتاب ((الزهد)) لعبد الله ابن المبارك.
· كتاب ((الزهد)) لأحمد ابن حنبل.
· كتاب ((الزهد)) للبيهقي.
· ((كتاب الزهد)) من سنن ابن ماجه.
قال رحمه الله تعالى (ج2/ص1373) باب الزهد في الدنيا:أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك)) حديث رقم 4102 قال الإمام الألباني: صحيح.،
· ((كتاب الزهد)) من سنن الترمذي (4/550)
· ((كتاب التوبة والزهد)) من الترغيب والترهيب للمنذري.
وغيرها من الكُتُب والمُصنّفات.
أمّا التصوّف فلم يذكروه في مُصنّفاتهم ولا في مُؤلفاتهم فضلاً أن يخصّوه بمصنّف مُستقل ! فما سمعنا ولا رأينا ولا قرأنا كتاباً لأحد من السلف بعنوان ((كتاب التصوّف)) ؟؟!!
وكلُّ خير في اتباع من سلَف **** وكلُّ شر في اتّباع من خلَف
رابعاً: قد كتب أئمّة السلف أئمّة الحديث والسنّة كُتُباً مُطوّلة ومُختصرات ذكروا فيها ما يجب على المرء أن يدين لله به ونصّوا في مُقدّماتهم أنّ ما ذكروه في هذه الكُتُب هو بمثابة سفينة نوح التي من تأخّر عنها غرق في بحر الظلمات والشبهات.
فمن تلك الكُتُب التي تُعدُّ أصول اعتقاد السلف أهل الحديث والأثر: ((أصول السنّة)) للإمام أحمد ابن حنبل، و((السنّة)) لابنه الإمام عبد الله، و((صريح السنّة)) للإمام الطبري، و((الإبانة عن أصول السنّة والديانة)) للإمام ابن بطّة العُكبُري، و((شرح السنّة)) للإمام البربهاري، و((الإبانة عن أصول الديانة)) لأبي الحسن الأشعري، و((الشريعة)) للإمام الآجرّي، و((السنّة)) للإمام الخلال، و((الاعتقاد)) للإمام أبي الحسين بن أبي يعلى الفرّاء، و((شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة)) للإمام اللالكائي، و((السنّة)) للإمام ابن أبي عاصم و((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) للإمام أبي عثمان الصابوني -رحم الله الجميع- وغيرها من الكُتُب. فما نصّوا ولا ذكروا بل ولا أشاروا ولو إشارات خفيّة –إن صحّ التعبير- إلى استحباب انتحال دين التصوّف بله وجوبه، وإليك أخي القارئ الكريم فقرة من كلام الإمام أبي الحسين محمّد بن القاضي أبي يعلى الفرّاء رحمه الله تعالى (توفي سنة526 هـ مقتولاً في بيته) في مُقدّمة اعتقاده يبيّنُ سبب تأليفه لهذا الكتاب:
قال رحمه الله:
((أما بعد، أعاذنا الله وإياك من التكلف لما لا نحسن، والادعاء لما لا نتقن، وجنبنا وإياك البدع والكذب، فإنهما شرّ ما احتقب، وأخبث ما اكتسب، فإنك سألت عن مذهبي وعقدي، وما أدين به لربي عز وجل، لتتبعه فتفوز به من البدع والأهواء المضلة، وتستوجب من الله عز وجل المنازل العلية، فأجبتك إلى ما سألت عنه، مؤملاً من الله جزيل الثواب، وراهباً إليه من سوء العذاب، ومعتمداً عليه في القول بالتأييد للصواب...)) الخ
فقد رأيتَ أنّ الإمام أبا الحُسين رحمه الله تعالى سُئل عمّا يدينُ لله به فأجاب رحمه الله عن هذا السؤال المُهمّ والخطير جواباً شافياً كافياً وما أشار إلى التصوّف ولا الصوفية ولو من بعيد.
وفي المُقابل ذكروا الزُّهدَ وحثّوا عليه.
فمن أمثلة ذلك ما جاء في كتاب السنّة للخلال (ج2/ص475) تحت رقم 750 :
أخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبدالله وذكر عائشة أم المؤمنين فذكر زُهدها وورعها وعلمها فإنها قسمت مائة ألف كانت ترقع درعها وكانت ابنة ثمان عشرة سنة وكان الأكابر من أصحاب محمد عليه السلام يسألونها يعني عن الفقه والعلم مثل أبي موسى الأشعري وغيره يسألونها. اهـ
فهذه أربع فوارق بين الزُّهد والتّصوّف تكفي الواحدة منها إلى إنكار صلة هذا بذاك.
هذا آخر ما حضرني في هذه المسألة فإن أصبتُ فيها فمن الله وإن أخطأتُ فمنّي ومن الشيطان والله ورسوله منه براء ولله الحمد من قبل ومن بعد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
____________
(1) من مقدّمة الكتاب الماتع ((إدمان الطُروق لمعرفة الفُروق)) لأبي عمّار ياسر العدني، (ص7) دار الآثار، صنعاء، ط1 سنة1427هـ
منقول من شبكة سحاب |
|
|
|
|
.