بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ،وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومِنْ َسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ له ، وَأَشْهَدُ أَ نْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلي الله عليه وعلى آله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
أما بعد .
قال الله تعالى
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى وقوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )
إشارة
إلى ثمرة محبة الله وفائدتها، وهي أن من أحب الله أحبه الله وغفر له ذنوبه، قال تعالى:
(ءيٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)
ما قد قيل قي الحب و المحبة ؛ للعلامة ابن القيم ؛رحمه الله تعالى
و أما كلام الناس في حدها فكثير ؛فقيل :هي الميل الدائم ؛و بالقلب الهائم .
و قيل إيثار المحبوب ؛على جميع المصحوب ؛وقيل موافقة الحبيب؛في المشهد و المغيب
و قيل اتَّحاد مُراد المحبوب .و قيل إيثار مراد المحبوب على مُراد المحب .
و قيل إقامة الخدمة مع القيام بالحُرمة .
و قيل استقلال المثير منك لمحبوبك؛و استكثار القليل منه إليك .
و قيل استيلاء ذكر المحبوب على قلب المحب .
و قيل حقيقتها أن تَهَب كلَّكَ لمن أحببته ؛فلا يبقى لك منك شئ .
و قيل هي أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب .
و قيل هي الغَيرة للمحبوب أن تُنْتَقَص حُرْمته ؛و الغيرة على القلب أن يكون فيه سواه.
و قيل هي الإرادة التي لا تنقص بالجفاء ؛و لا تزيد بالبر .
و قيل هي حفظ الحدود ؛فليس بصادق من ادَّعى محبة من لم يحفظ حدودَه .
و قيل هي قيامك لمحبوبك بكل ما يحبه منك .
و قيل هي مجُاَنَبَةُ السُّلُوّ .
وقد قيل
و من عَجَب أني أحنُّ إليهمُ * و أسأل عنهم من لَقيتُ و هم معي
و تطلبُهم عينًي و همَ في سوادها * و يشتاقُهم قلبي و هم بين أضعلُي
و قيل :هي أن يكون المحبوب أقرب إلي المحب من رُوحه .
يامقيمًا في خاطري و جَنابي* و بعيداً عن ناظري و عياني
أنت روحي إن كُنتُ لستُ أراها* فهي أدنى إلى من كل داني
وسئل الإمام أبو الفرج بن الجوزي –رحمه – بأبيات :
يا أيها العالمُ ماذا ترى **** في عاشق ذاب من الْوَجْد
من حبَّ ظبي أغيد أهيف **** سهل المُحْا حسن لقدَّ
فهل ترى تقبيلًَه جائزاً **** فى الفَم و العينين و الَخدَّ
من غير ما فُحْش و لا ريبة **** بل بعناَق جائز الحدَّ
إن كنت ما تفتي فإني إذاَّا **** أصيح من وجدي و أستعدي
فكتب - رحمه الله تعالى-
الجواب
يا ذا الذي ذاب في الوَجْد **** و ظل ضُرَّ و في جَهْد
اسمع فدتك النفس من ناصح **** بنصحه يَهْدي إلى الرُّشْدَ
لو صح منك العشقُ ما جئتني **** تسألني عنه و تستعدي
فالعاشقُ الصادقُ في حبه **** ما باله يسأل ما عندي
غَيَّبه العشق ُ فما إن يُرى **** يُعيدُ في العشق و لا يُبدي
و كلُّ ما تذكر مستفتيًٍا **** حرّمه اللهُ على العبد
إلا لما حلّله ربُّنا **** في الشرع بالإبرام و العَقْدَ
فَعَدَّ من طُرْق الهوى مُعْرِضًا **** وقف بباب الواحد الفرْد
وسَلْه يشفيك و لا يبتلي **** قلبَك بالتعذيب و الصَّدَّ
و عف َّ في العشق و لا تُبْده **** و اصبِر و كاتم غايةَ الجُهد
فَإن تَمُتْ محتسبٍا صابراً **** تفز غداً في جنة الخلد
وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إذا أحب الله تعالى العبد، نادى جبريل، إن الله تعالى يحب فلاناً، فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )) متفق عليه .
وفي رواية لمسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال : إني أحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول : إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فيقول : إني أبغض فلانا، فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه ، فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في السماء ))
فقد قالَ العلامةُ ابنُ القيمِ رحمه الله تعالى ايضاً
"قد أَجمعَ العارفونَ على أن التوفيقَ : أن لا يَكِلَكَ الله إلىنَفْسِكْ
وأن الخِذلان: أن يَكِلَكَ الله إلى نَفْسِكْ "
وهذا المعنى يَتَمَثلُ ، أَكبرَ ما يَتَمَثَّلُ ، في تَحْقِيق محبه الله تبارك وتعالى للعبد , كما قال اللهَ جل وعلا في حديثِ الأولياء ((وَمَايَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُبِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلئنْسَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))
فهذه الكفاية ، وأن لا يَكِلَ اللهُ تباركَ وتعالى العبد إلى نفسه ، هي ثمرة محبه الله تبارك وتعالى للعبد ، كما بين الله تبارك وتعالى في هذا الحديث القدسي العظيم ، والرسولُ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بهذا المعنى الجليل أمر فاطمة رضي الله عنها ؛
كما في الحديث الذي أخرجه النسَائيُ والبَزَّارُوالحَاكمُ ، وقال :صحيحٌ على شرط الشيخين ،
والحَقُ أنه: حديث حسن ، قال فيه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -كما روى ذلك أنسٌ رضي الله عنه (يافاطمةُ ما يَمنَعكي أنْ تَسْمَعِي ما أَقُول لَكِيْ ,تقولين إذا أصبحتي وإذاأمسيتي- في ذلك الحديث الذي في أذكار الصباحِ والمساءْ -يا حيُ يا قيومْ برحمَتِكَ أستغيثُ أصلح لِي شأني كُله ولا تَكِلْنِي إلى نفسي طَرفَة عَين أبدا))
(( والمحبة أنواع ))
هاهنا أربعة أنواعٍ من المحبة يجب التفريق بينها ، وإنما ضلّ من ضلّ بعدم التمييز بينها
أحدهما : محبة الله ؛ ولا تكفي وحدها في النجاة من الله من عذابه والفوز بثوابه؛ فإن المشركين وعبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله .
الثاني : محبة ما يحب الله ؛ وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها .
الثالث : الحب لله وفيه ؛ وهي من لوازم محبة ما يحب الله ، ولا يستقيم محبّة ما يحب الله إلا بالحب فيه وله .
الرابع : المحبة مع الله ؛ وهي المحبة الشركية ، وكل من أحبّ شيئاً مع الله ،لا لله ، ولا من أجله ، ولا فيه ، فقد اتخذه نداً من دون الله ،وهذه محبة المشركين .
وبقي قسم خامس ليس مما نحن فيه وهى المحبة الطبيعية : وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه ؛كمحبة العطشان للماء ،والجائع للطعام ،ومحبة النوم والزوجة والولد؛ فتلك لا تذم إلا إذا ألهتْ عن ذكر الله وشغلت عن محبته ،كما قال تعالى } يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله { [المنافقون :9] وقال تعالى: } رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله { [النور :37].
[ أعظم أنواع المحبة وأنفعها هي محبة الله تعالى ]
واعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلة القلوب على محبته وفطرت الخليقة على تأليهه ،وبها قامت الأرض والسموات ،وعليها فطر المخلوقات، وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل له والخضوع والتعبد ، والعبادة لا تصح إلا له وحده ، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل ، والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله ، والله سبحانه يُحب لذاته من سائر الوجوه ،وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته .
وقد دل على وجوب محبته سبحانه :جميع كتبه المنزلة،ودعوة جميع رسله أجمعين ، وفطرته التي فطر عليها عباده ، وما ركب فيها من العقول ، وما أسبغ عليهم من النعم ، فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها ؛ فكيف بمن كل الإحسان منه ، وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لا شريك له كما قال تعالى: } وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون { [ النحل :53] وما تعرَّف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته .