بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عبيكم
اخوتي في الله
إن من أخلاق المؤمنين محبة بعضهم لبعض، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[1]. وإن من أخلاق المؤمنين مولاةَ بعضهم لبعض موالاةً تقتضي النصيحةَ والإخلاص لها، وتقتضي محبَّة المؤمن، وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. ومن أخلاق المؤمنين تألم البعض بألم البعض، فهم كالجسد الواحد، يتألم الكل بتألُّم البعض، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))[2]، وهم كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، متى ما اختلَّت لبنة من لبن البناء أدى إلى انهيار البناء وضعفه.
ومن أخلاق المؤمن أن المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، إن رأى خيراً شجَّعه على الخير، ورغَّبه فيه، وحثه على الاستمرار عليه، وإن رأى خللاً، إن رأى خطأً، إن أبصر نقصاً، إن نظر إلى مخالفة للشرع، فإنه يسعى في تسديد أخيه المسلم. وفي نصيحته وفي إنقاذه من الخطأ، وفي دعوته للصواب، وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ[العصر:1-3].
أيها المسلم، إذاً فبذلُ النصيحة لإخوانك المسلمين أفراداً وجماعة دالٌّ على إيمانك وحبك الخير لإخوانك المؤمنين، وبذلُ النصيحة للمؤمنين أخلاق أنبياء الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم. هذا نوح يقول لقومه: وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[الأعراف:62]، وهذا هود عليه السلام يقول لقومه:وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ [الأعراف:79]، وشعيب عليه السلام يقول لقومه: وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَـٰفِرِينَ [الأعراف:93]، ومحمد أعظم خلق الله نصحاً لأمته لكمال شفقته ورحمته بهم قال تعالى عنه: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، وهو القائل : ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم))[3]، وهو الآخذ بحجزنا عن النار، ولكننا نتفلَّت منه صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين. فلا خير إلا هدانا له وبينه لنا، ولا شر إلا بينه لنا وحذرنا منه، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
أيها المسلم، مقتضى المحبة الإيمانية والأخوة الإسلامية، مقتضاها أن تبذل النصيحة لأخيك، عندما ترى مخالفةً ويقع نظرك على خطأ فتبذل النصيحة لأخيك المسلم إنقاذاً له من عذاب الله، وأخذاً بيده لما فيه صلاح دينه ودنياه. ولكن هذه النصيحة تحتاج إلى ضوابط لتكون نصيحة مؤثرة، نصيحة نافعة، نصيحة تؤدي الغرض منها.
فأولاً: إخلاصك في نصيحتك، فالحامل على النصيحة إخلاصٌ لله، ثم لأخيك المسلم، ليست نصيحتك رياءً وسمعة، ولا افتخاراً بها، ولا تعلٍ بها، ولا استطالة على الخلق، ولا أن يكون لك رفعة ومكانة، ولكنها نابعة من قلب صادق محب للخير، ساع له. والمخلصون في نصيحتهم هم الذين يضعون النصيحة موضعَها، لا يتحدثون بها، ولا يفتخرون بها، ولكنها سرٌ وأمانة بينهم وبين من ينصحون له، لأن هدفهم وغايتهم صلاح أخيهم المسلم، واستقامة حاله، وحماية عرضه، وليس هدفهم الاستطالة والترفع على الناس.
ولا بد أن يكون هذا الناصح عالماً بما ينصح، فكم من متصوِّر للخطأ أنه صواب فيدعو إلى غير هدى، وينصح بلا علم، فربما أفسد أكثر مما يريد أن يصلح، إذاً فالعلم بحقيقة ما تنصح له، بأن تعلم الخطأ على حقيقته، وتعلم كيف تخلص أخاك المسلم من تلك الهلكة.
وثالثها: لا بد أن تكون بعيداً عن التشهير والتعيير والشماتة بالمخالف، فإن المعيِّر للناس الشامت بهم الفَرِح بعوراتهم المتطِّلعَ إلى عيوبهم الحريصَ على أن يرى العيب والخطأ فهذا ليس بناصح ولكنه مسيء وضاره. وهذا النوع من الناس لا يوفَّقون للخير؛ لأنهم لم يقصدوا الخير أصلاً، وإنما اتخذوا الدين والخير وسيلةً للنيل ممن يريدون النيلَ منه. ولهذا ترى هذا الشامت وهذا الفَرِح بالعيوب والنقائص ينصح علانية، ويُظهر الأمر أمام الملأ لكي يَحُطَّ من قدر من يظنُّ أنه ينصحه، ولكي يُطْلع الناس على عيوب خفيَت عن الآخرين، فيكون بذلك مسيئاً لا مصيباً، ومفسداً لا مصلحاً، وفاضحاً لا ساتراً. ولهذا يُروى: ((من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يفعله))[4]، وفي الأثر: ((لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك))[5].
أيها المسلم، النصيحة لجماعة المسلمين وأفرادهم، النصيحة للجميع، فنصحُك ـ أيها المسلم ـ عام لجميع المسلمين أفراداً وجماعة على قدر استطاعتك وقدر نفوذك، وكلٌ يؤدي ما يستطيع أداءَه.
أخي المسلم، إننا معشرَ البشر لا بد فينا من أخطاء، والمعصوم من عصم الله، فلا بد من أخطاء في البشر، نسي آدم فنسِيتْ ذريتُه، لا بد من أخطاء، ولو تبصَّر الإنسان في نفسه لأبصر عيوبَه وأخطاءه، واشتغل بها عن عيوب الآخرين، كلُّنا خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، كلنا عرضةٌ للزلل والخطأ والتقصير في الواجب أو ارتكاب شيء مما خالف الشرع لو تبصر المسلم حقَّاً. فإذا كنا كذلك فالواجب على الجميع التناصح فيما بيننا، فلعل أخاك المسلم وقع في تلك المخالفة إما غفلةً منه، إما جهلا بالحكم، أو غفلةً وسهوا وسيطرة شهوات وهوى وجلساء سوء ودعاة ضلال، لعله عرض له أمر ظنَّ أن ما هو عليه حقٌّ والواقع أنه خطأ ومخالف للشرع.
أخي المسلم، إذاً فلا بد من ترويض نفسك على الصبر والاحتساب، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم وأفهامهم، لتعلم حال من تنصحه، أخلاقُه تقبُّله لما تدلي إليه من نصيحة، حسن تقبُّله أو عدم تقبله، وكيف حاله وكيف طريقة نصحه؛ لأن هدفك الوصول إلى الحق، وإنقاذ المسلم مما هو واقع فيه من الخطأ.
أخي المسلم، فكن لله ناصحاً، وكن لعباد الله ناصحاً، نصيحةً تنبع من قلب مليء بالرحمة والمحبة والشفقة وحسن القصد، لا عن خيانة وغش واستطالة وترفُّع على الناس.
أخي المسلم، تجد مخالفةً في بيتك من أبناء وبنات وإخوان وأخوات وآباء وأمهات، فلا بد من نصيحة للجميع على قدر حالهم، تنصح أباك إن رأيت مخالفة، ولكن بأدب وشفقة وبر وإحسان ومعاملة بالمعروف، تراعي كبرَ السن، وتراعي أدب التحمُّل، وتراعي كل الظروف، وتنصح الأمَّ إن رأيت خطأ، وتنصح البنين والبنات، والإخوة والأخوات، وتنصح الأرحام والجيران، ولتكن النصيحة منك عامة للفرد والجماعة.
ترى مسلماً يتهاون بأمر الصلاة فتنصحه لله نصيحةَ الخير، ترغِّبه في الفريضة، وتبين له أهميتها وآكديتها، وأنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأنها عمود الإسلام، وأن المتخلف عنها والمضيِّع لها معرِّضٌ نفسَه لأن يوصف بالكفر والشرك.
ترى مسلماً يغلب على ظنك عدم أدائه الزكاة، وأنه ذو ثروة عظيمة، فتخوفه من الله فيما بينك وبينه، وتبيّن له عواقب منع الزكاة، وآثام مانعي الزكاة، وما يترتب على ذلك من الوعيد فيما بينك وبينه، فلعل موعظة تقع في قلبه، فتحركه للخير وتحمله على الجود بالواجب.
وترى من يقصر في صيامه أو يسيء فيه، أو من لم يؤدِّ الحج، وكل ذلك لتنصحهم لله.
ترى مسلماً جافياً لأبويه، عاقاً لهما، مسيئاً لهما، فتنصحه وتحذره من القطيعة، وتبين له عاقبة عقوق الرحم، وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، وأنه سبب لمحق بركة العمر والعمل والرزق والولد.
وترى من يقطع رحمه فتسعى في نصيحته وحمله على الصلة بالرحم وبر الأرحام والإحسان إليهم.
ترى مسلماً لا يتقي الله في معاملاته في البيع والشراء، فتنصحه لله، وتحذره من المخالفات.
ترى مسلماً انخدع بجلساء سوء، وشُلَل فساد ورذيلة، فتحذره من تلك المجتمعات الشريرة، وتربأ به إلى الخير، وتحذِّره من أولئك، ليكون على بصيرة من أمره، فيستقيم على الخير والهدى.
أيها المسلم، ومن خلال أي موقع أنت فيه فقد ترى من بعض المسؤولين شيئاً من المخالفة، فلا تدع النصيحة لله بينك وبين ذلك المسؤول، أن تبيِّن له الأخطاء التي ارتُكبت، والتقصير الذي حصل، والمخالفات التي وقعت، لتبين له الأخطاء لا نميمةً تسعى بها لتضر هذا وتنفع هذا، ولكن نصيحة للإصلاح والقيام بالواجب، وعدم الإخلال بالأمانة، وليكن ذلك بينك وبينه سراً، ليثِق بك ويعلم صدقَك وأن هدفك الخير والإصلاح. ولهذا تنصح أيَّ مسؤول كان، لكن مع التزام الأدب، وكتمان النصيحة وسريتها، لتؤدي غرضها، وتؤدي الهدف منها، أما من يشيع كل شيء قاله، وكل أمر نصح فيه، فإنما يريد مكانةَ نفسه، ولا يريد الخير للمسلمين.
فلنكن ـ إخوتي المسلمين ـ ملتزمين بهذا الأدب في نصيحتنا لأي فرد منا، وليكن ذلك بحكمة ولين ورفق حتى تؤدي النصيحة مفعولها، ولهذا يقول الله لنبيه : فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، والله جل وعلا حذرنا من أن نشيع الفاحشة فينا، قال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19]، قال بعض السلف: إن النصيحة علانية وتبيين معاصي العباد، إنه نوع من الهوان على الإسلام وأهله. فليحذر المسلم أن ينشر معائب المسلمين، ويتحدث عن أخطائهم علانية، فلا يقبلوا منه نصيحةً إن نصح، ولا يقبلوا منه توجيها إن وجَّه؛ لأنهم يعلمون أنه يتاجر بتلك النصيحة، يريد بها مكانة لنفسه وعزاً لنفسه، وهو لا يدري أنه بذلك أسخط ربه، لأن الناصح الهادف من نصيحته يتلمَّس الخير ويبحث عن الطرق التي يوصل بها النصح لكي يستفيد ويفيد. همُّه إصلاح المسلمين، لا همُّه مصلحته الذاتية، ولا يتخذ من النصيحة وسيلة لتجريح الناس وعيبهم، والسعي بالنميمة فيما بينهم، فيفرق أخوَّتهم، أو يحدث النزاع بينهم، إنما يهدف من نصيحته التوفيق والإصلاح: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلَـٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] هكذا يقول شعيب عليه السلام، ونوح يقول لقومه: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ [هود:34]، لأنه أدام النصحَ لهم، أخبر الله عنه أنه دعا قومه لله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، كل ذلك حرص على هدايتهم، وحرص على صلاح قلوبهم، والأمر بيد الله. إنما على المسلم أن ينصح لله الأفراد والجماعة، وكل على قدر حاله، وكل على حسب منزلته، وأن الأدب في النصيحة والإخلاص فيها وكتمانها وإيصالها إلى المنصوح بالطرق الجيدة، أن ذلك يترك أثراً عظيماً، أما الشماتة بالناس، ونشر عيوبهم، والتحدث عن أخطائهم، وكأنه أعطي أماناً من الخطأ، وكأنه أعطي عصمةً من الزلل، فهذا الدرب من الناس لا همّ لهم إلا تجريح الناس، والنيل منهم، فعياذاً بالله من حالة السوء، أما المؤمن فهو بخلاف ذلك، وليٌّ لأخيه، يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، هو الغفور الرحيم.