السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين، وقلبت الليالي من سجلات السابقين، وما
أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟!
كل نفس من أنفاس العمر معدود، وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود! {يَوْمَ تَجِدُ
كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها، تتخطفها وهي راقدة في منامها، تعاجلها
وهي تمشي في طرقاتها، تقبضها وهي مكبة على أعمالها، تتخطفها وتعاجلها من غير
إنذار أو إشعار {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}
هاهو ابن آدم يصبح سليما معافا في صحته وحلته ثم يمسي بين إطباق الثرى قد حيل
بينه وبين الأحباب والأصحاب
ويل للأغرار المغترين يأمنون الدنيا وهي غرارة
ويثقون بها وهي مكارة ويركنون إليها وهي غدارة
فارقهم ما يحبون ورأوا ما يكرهون وحيل بينهم وبين ما يشتهون ثم جاءهم ما يوعدون ما
أغنى عنهم ما كانوا يمتعون
إنها الدنيا!
تبكي ضاحكا، وتضحك باكيا، وتخيف آمنا و تؤمِّن خايفا، وتفقر غنيًا، وتغني فقيرا، تتقلب
بأهلها لا تبقي أحد على حال!
العيش فيها مذموم، والسرور بها لا يدوم، تغير صفاءها الآفات، وتنبوها الفجيعات، وتفجع
فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا، قد تنكرت معالمها وانهارت عوالمها!
لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه.
فمن صفّى، صُفّي له، ومن كدّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله، كوفئ في نهاره، ومن
أحسن في نهاره، كوفئ في ليله.
ومن سره أن تدوم عافيته، فليتقِ الله ربه!
فالبر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديّان لا يموت، وكما تدن تُدان.
وإذا رأيت في عيشك تكديرا، وفي شأنك اضطرابا، فتذكّر نعمة ما شكرت، أو زلة قد
ارتكبت
واحذر من زوال النعم، وفجاءة النقم! ولا تغتر بسعة حلم الحليم!
فجودة الثمار من جودة البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في
القيامة مع من أحب
يقول الفضيل ابن عياض رحمه الله
"من عرف أنه عبد الله، وراجع إليه، فليعلم أنه موقوف،
ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليعد لكل سؤال جواباً،
قيل: -يرحمك الله- فما الحيلة؟
قال: الأمر يسير؛ تـُحسن فيما بقي، يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقي، أُخذت
بما مضى وما بقي"
وهذه وقفة محاسبة مع النفس، بل مع أعز شيء في النفس، مع ما بصلاحه صلاح العبد
كله، وما بفساده فساد الحال كله!
وقفة مع ما هو أولى بالمحاسبة وأحرى بالوقفات الصادقة..
يقول نبيكم محمدًا صلى الله عليه واله وسلم:
((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا
وَهِيَ الْقَلْبُ)).
ويقول عليه صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)).
ويقول الحسن رحمه الله: "داوِ قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب
الله حتى تحب طاعته".
وتقبلوا تحياتي
م ن ق و ل