السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أصبحت المدينة منذ أن حل بها النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد هجرته المباركة منزل
الوحي، ومعقل الإسلام، وعاصمة الدولة الوليدة، واتخذ النبي من المسجد الذي بناه
مقرًا لإدارة شئون المسلمين، فلم تقتصر وظيفته على أداء الصلوات، وإنما امتدت ليصبح
مدرسة تخرج فيها الرعيل الأول من قادة المسلمين وحملة ألويته ودعاته المخلصين،
ومكانًا تُعقد فيه الجلسات، وتُستقبل فيه الوفود والسفراء.
علاقة المسلمين بجيرانهم
وكان من الإجراءات التي اتخذها النبي (صلى الله عليه وسلم) لسلامة بناء مجتمع
النبوة الناشئ، أن كتب وثيقة خالدة تحدد العلاقات والحقوق والواجبات بين سكانها
جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، فقررت الصحيفة حرية الدين لليهود ولقبائلهم وبطونهم
التي سبق أن تحالفت معها بطون الأوس والخزرج، شريطة مراعاة حقوق المواطنة،
والابتعاد عما يخل بالنظام، حيث جاء في الوثيقة: "وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر
والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا
محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم…".
غدر اليهود ونقضهم للعهود
غير أن اليهود لم يلتزموا بما تعاهدوا عليه، ولم يحترموا نصوص الوثيقة التي تنظم الحياة
في المدينة، وإنما غدروا وخانوا، ونقضوا العهود، وهموا بقتل النبي (صلى الله عليه
وسلم) لولا أن عصمه الله منهم، وسعوا بالوقيعة بين الأوس والخزرج، وكادت تحدث فتنة
بينهما لولا أن تداركتها حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) البالغة، ونقضوا عهدهم مع
النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة الخندق، وكاد الأمر يتحول إلى كارثة تحل
بالمسلمين بعد أن أصبحوا محاصرين من الأحزاب ويهود بني قريظة.
لكل هذا لم يجد النبي (صلى الله عليه وسلم) بدًا من إخراجهم من المدينة أو إنزال
أقسى العقوبة بهم؛ حماية للدولة، وحفاظًا على أمن المسلمين وسلامتهم، وتوحيدًا
للصف، فأجلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يهود بني قينقاع من المدينة في العام
الثاني من الهجرة، ثم تبعهم يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة، ثم قضى
على يهود بني قريظة في العام الخامس من الهجرة لخيانتهم له (صلى الله عليه وسلم)
، وتعريضهم المدينة للدمار وأهلها للفتك والقتل لو نجح المشركون في اقتحام المدينة
في غزوة الأحزاب.
ولم يبق لليهود سوى خيبر، وهي قرية كبيرة تقع شمال شرقي المدينة بنحو 180كم،
يسكنها بعض اليهود الذين لم تبد منهم بادرة سوء للمسلمين، أو يؤخذ عليهم أنهم حاربوا
الله ورسوله، ولم يُسمع أنهم اشتركوا في مؤامرة من المؤامرات التي كانوا لا يتوانون
في إعدادها للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ ولهذا احترم النبي (صلى الله عليه وسلم)
موقفهم وحيادهم، غير أنهم تبدلوا وجعلوا من بلدهم مركزًا لتجمع اليهود، فنزل عندهم
يهود بني قينقاع وبني النضير، وصاروا يهددون المسلمين بمؤامراتهم، وأصبحوا خطرًا
على أمن الدولة الإسلامية، ولا سيما أن خيبر تقع على الطريق المؤدي إلى الشام،
فلزم تطهير ذلك الطريق من خطر هؤلاء، والقيام بتصفية بقايا الوجود اليهودي في شبه
الجزيرة العربية؛ لتسلم قاعدة الإسلام الأساسية ومنطلقه من عدو ماكر.
الخروج إلى خيبر
لم يكد النبي (صلى الله عليه وسلم) يعود من الحديبية ويستريح بالمدينة شهرًا أو نحوه،
حتى خرج إلى خيبر، في المحرم من العام السابع للهجرة، في ألف وستمائة مقاتل،
وكان يهود خيبر من أشد الطوائف اليهودية بأسًا وأكثرهم مالاً، وأمنعهم حصونًا، وأكثرهم
سلاحًا، حتى إن قريش وعرب الجزيرة وقفوا ينتظرون ما يسفر عنه التقاء القوتين. وفي
الوقت نفسه استعد المسلمون استعدادًا حسنًا، فاشترط النبي (صلى الله عليه وسلم)
ألا يخرج معه إلا من شهد الحديبية، وهم صفوة المسلمين، وخلاصة فرسانهم وأبطالهم
الشجعان، يغمرهم إيمان عامر، وحب للشهادة في سبيل الله، وثقة في نصر الله لهم.
وكانت خيبر مكونة من ثلاث مناطق تضم قلاعهم وحصونهم، وتمتلئ بنحو عشرة آلاف
مقاتل، والمناطق الثلاث هي:
- منطقة النطاة، وبها حصن ناعم، وعليه "مرحب"، وهو واحد من أبرز زعماء خيبر
وفرسانها، بالإضافة إلى حصنين آخرين، هما: حصن الصعب بن معاذ، وحصن قلعة
الزبير.
- منطقة الشق، وبها حصنان.
- منطقة الكتيبة، وبها حصن "القموص" لبني الحقيق من يهود بني النضير، وحصنان
آخران.
خطة الفتح
أعاد النبي (صلى الله عليه وسلم) توزيع جيشه، فقسمه أربع فرق: واحدة بقيادة أبي
بكر الصديق، والثانية بقيادة عمر بن الخطاب، والثالثة بقيادة سعد بن عبادة، والرابعة
بقيادة الحُبَاب بن المنذر، وأمّر على الجيش علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعًا.
وكان حصن "ناعم" أول حصن يتعرض له المسلمون بالهجوم، وكان محصّنًا تحصينًا منيعًا،
ودار أمامه قتال عنيف دون أن يتمكن المسلمون من اقتحامه؛ نظرًا لاستماتة المدافعين
عنه، واستمر القتال طوال اليوم دون تحقيق نصر، وجُرح من المسلمين خمسون،
واستشهد واحد منهم، وفي اليوم التالي خرج "مرحب" قائد الحصن مختالاً بقوته
وسلاحه، ودعا المسلمين إلى المبارزة، فبرز إليه "محمد بن مسلمة" ونجح في قتله،
وقيل قتله علي بن أبي طالب، وتمكن أبطال المسلمين من قتل إخوة "مرحب" وكانوا
أبطالاً صناديد، وكان لقتلهم أثر في إضعاف معنويات المدافعين عن الحصن، وبعد قتال دام
خمسة عشر يومًا تمكن المسلمون بقيادة علي بن أبي طالب من فتح الحصن،
والاستيلاء عليه، وفر من بقي من اليهود إلى حصن "صعب"، وكان حصنًا منيعًا هو الآخر،
وأوكل النبي (صلى الله عليه وسلم) مهمة فتح هذا الحصن إلى "الحباب بن المنذر"
الذي نجح في اقتحامه بعدما أبلى المسلمون بلاءً حسنًا، واستولى على ما في الحصن
من أسلحة وعتاد، وكانت كثيرة جدًا، حيث كان يُعد هذا الحصن مخزنًا لأسلحة يهود
خيبر، ومعداتهم الحربية من سيوف ودروع ومجانيق.
وبسقوط هذين الحصنين علت كِفّة المسلمين في الحرب، وأيقن اليهود أنهم لا قبل لهم
بالمواجهة العسكرية، فطلبوا الصلح، فأجابهم النبي (صلى الله عليه وسلم) عليه، وعقد
معهم معاهدة كان من بنودها أن يجلوا عن خيبر إلى الشام، ويسلّموا قلاعهم وحصونهم
إلى المسلمين بما فيها من أسلحة وعتاد، لكنهم طلبوا من النبي (صلى الله عليه
وسلم) أن يظلوا يعملون في أرض خيبر مقابل نصف ما تنتجه، وأن يكونوا في حمى
المسلمين وتحت حكمهم، فقبل النبي (صلى الله عليه وسلم) منهم ذلك.
وعلى الرغم من تحقيق هذا النصر العظيم، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) عامل
اليهود معاملة حسنة، ولم يقابل إساءاتهم بإساءة، فرد عليهم صحفًا من توراتهم حين
طلبوها منه، وكانت قد وقعت فيما وقع من غنائم للمسلمين، ولم يصنع النبي مثلما صنع
الرومان حين فتحوا أورشليم؛ حيث أحرقوا الكتب المقدسة.
نتائج هذا الفتح
كان من نتائج هذا الفتح أن صالح يهود "فدك" النبي (صلى الله عليه وسلم) على أن
يحقن دماءهم، وكذلك فعل يهود "تيماء" و"وادي القرى"، فصالحوه على دفع الجزية،
وبقوا في بلادهم آمنين.. وبهذا النصر المبين دان اليهود كلهم للإسلام، وانتهى ما كان
لهم من نفوذ وجاه، ولم تقم لهم قائمة بعدُ، وبهذا أصبحت الدولة الإسلامية بمأمن من
ناحية الشمال إلى بلاد الشام.
هذا والله واعلم .
وتقبلوا تحياتي
م ن ق و ل