ذات مرة..ذهبت إلى الحقل القريب من منزلي
..أبحث هنالك عن خلوة وهدوء، وعن بعض من هواء نقى،
وعن مساحة من الوقت أطلق فيها عقلي للتأمل وصيد الأفكار،
وهنالك ألجأت ظهري إلى نخلة مشرئبة الهامة..
توشك أن تلامس سحب السماء..مددت رجلاي
، وأسدلت جفناي على مقلتاي،
ثم أطلقت لفكري العنان ليسبح في ملكوت الله أنى شاء.
وفى ذروة الاسترسال الفكري والبدني شعرت بمتكئي من جذع النخلة يهتز
، فنهضت من غفوتي لأنظر ماذا جرى،
فإذا برياح شديدة وزوابع ورعد وبرق وسحب كثيفة،
تحمل في باطنها كثير من مطر قد يهطل بين لحظة وأخرى..
المهم أنى تركت مكاني واستدرت بوجهي ناحية النخلة لأنظر ماذا تفعل
..!!.
وفى صمت بليغ لقنتني النخلة درساً هو الأجمل والأبرز بين كل الدروس التي تعلمتها
في حياتي.
.لقد نظرت إليها فوجدتها تتمايل مع الرياح وكلما اتجهت ببصري نحو الأسفل قـَلَّ التمايل
تدريجياً حتى ينعدم عند اتصال جذعها بالأرض،
وكأن النخلة تريد أن تقول بلسان الحال:
أنا أتمايل حتى لا انكسر ورغم ذلك فإني ثابتة في موضعي لا أتحرك..
فماذا نفهم من حال النخلة الهادئة مع نوبات الرياح الهائجة ؟!.
أظن أن هذه رحلة وسياحة شيقة لعقل يبحث في تصرف النخلة كي يفهم ما وراء
صنيعها من علل وحكم، فربما نتعلم من العوالم الأخرى ما لا
نتعلمه في عالم البشر..لقد تعلمت من تعامل النخلة مع
الرياح ما يلي:-
أولا: أن أكون مرناً حينما أتعامل مع واقع ينتج في كل برهة
متغيراً جديداً ومختلفاً، ربما لا يتوافق في بعض الأحيان مع
ميولي وقناعاتي، ورغم ذلك فأنا مطالب بأن أتعايش مع هذا
المتغير، الذي يفرضه الواقع ليس من باب الاستسلام ولكن
من باب الاستكشاف ومحاولة الفهم والتأثير والتأثر، وكم من
نماذج أثرت في الواقع وتركت بصمة على وجه الحياة بلا صخب أو ضجيج
، وكم من نماذج أثر فيها الواقع وغير من توجهاتها وقناعاتها
..إذاً فالتعايش مطلوب وبشدة.
ثانياً: إن التكيف مع الواقع لا يعنى كما يتصور البعض تنازل
الإنسان عن شخصيته وكبريائه، لأن النخلة وهى رمز
الشموخ والكبرياء، حية كانت أو ميتة،
لم تستنكف أن تتمايل مع الريح الهائجة حتى تمر،
لأنها علمت أنها لا تعيش بمفردها في هذا الكون، كما أنها قد
علمت أن التكيف مع المتغير الراهن بالتمايل المرن سوف يحميها من الانكسار، وكأنها قد
فهمت الحكمة التي تقول " لا تكن صلباً فتكسر
، ولا ليناً فتعصر ".
ثالثاً: مسألة الثبات على القناعات الشخصية لا تعنى في
الحقيقة الخروج عن السياق العام للمجتمع، كما لا تبرر كيل
الاتهامات لكل من يخالف هذه القناعات، الأمر الذي يؤدى إلى
الشرذمة الفكرية والسلوكية، وتفتيت وحدة المجتمع إلى
كيانات متشرنقة على ذاتها وأفكارها، ومن ثم إيجاد حالة من
الحساسية المفرطة بين هذه الكيانات تؤدى في النهاية إلى فتن تنذر بنتائج كارثية على
أي مجتمع من المجتمعات، ولذلك كان الحوار من أجل بناء
وخلق مناطق مشتركة وأطر عامة للتعايش يعد سبيلاً لا غنى عنه لكل الأطياف
والأيديولوجيات.
رابعاً: روح المعاصرة والاستعداد الدائم للتعاطي مع كل جديد
بفكر متفتح قادر على التمييز بين الحسن والقبيح من الأفكار والأشخاص، يجب أن تكون ثابتة ولازمة لا تتخلى عن فكر أي شخص يؤمن بحتمية
الطورية والتجدد في حياة البشر، حيث لا يخفى أن المتغير
يعد أبرز الثوابت في زمن "النانو" ثانية و"الفامتو" ثانية،
ولذلك فلم يعد من المقبول أو المعقول الإصرار على أفكار من الماضي لا
تتلاءم مع الواقع الحالي، إنما يجب أن يتم الترحيب بكل جديد
لا يشذ عن ثوابتنا الدينية والأخلاقية، لأن قاطرة التطور سوف
تدهس كل متحجر أو جامد.
خامساً: التسامح وامتلاك القدرة على أدائه وتنفيذه بصدق
، محاصرة لأفكار الانتقام والثأر،
وتنمية لروح العفو والصفح والغفران، التي تخلق حالة من
الهدوء الممزوج بالحب، خاصة وأن هنالك أيد شيطانية لا تكف
عن العبث باستقرار المجتمع تحقيقاً لمأرب لا تتحقق إلا في جو الفتن ومناخ الوقيعة
. هذه بعض نقاط رئيسة تعلمتها حين ثبتت النخلة في أرضها
وهى شامخة وفى ذات الوقت تكيفت مع واقعها المحيط بمنتهى الحكمة والذكاء..
لقد ذكرتني النخلة بتعريف الذكاء وهو " القدرة على التكيف
منقول