بقلم فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة
يصف ربنا نفسه بأنهكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن) وشأنه كل يوم أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين؛ كما قال أبو الدرداء.أو يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعزّ ويذل، ويغلّ ويفك، ويفعل ما يشاء؛ كما قال ابن عباس.
أو يربي صغيراً ويفك أسيراً، ويغني فقيراً، وهو مَردّ حاجات الصالحين، ومنتهى شكرهم وصريخهم؛ كما قال قتادة. أو يعتق رقاباً، ويفحم عتاباً، ويعطي رغابا،كما قال سويد بن جبلة. وقال أبو الجوزاء: لا يشغله شأن عن شأن.
والإطباق على هذا لمعنى يدل على أنه سبحانه كل يوم في شأن مع خلقه، في تبديل الأحوال، ونقلهم من الضعف إلى القوة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العدم إلى الوجود؛ مما تقتضيه حكمته(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ولذا بدأت الآيةبـ(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني الإنس والجن والملائكة وكل المخلوقات، وفيه حفاوة بالدعاء والسؤال والتعرض لنفحات ذي الجلال، فإنها مظنة أن تجعل التبديل والتغيير للأفضل، فإذا سألوه وألحوا في سؤالهم، كان من شأنه أن يجيب سائلهم، ويغيّر أحوالهم من الهوان والتخلف والجهل والمرض والفرقة والضياع إلى الرفعة والمجد والعلم والعافية والاتحاد. ولعلها مناسبة اتصال أول الآية بآخرها.
وهو سبحانه لا يحول ولا يزول ولا يتبدل ولا يطرأ عليه ما يطرأ على خلقه، وإنما شأنه المذكور هو في عباده ومخلوقاته، فهذا شأن الألوهية.
أما شأن العبودية فيصوره فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) فأقسم بهذه المخلوقات ومراحلها وتقلبها وأحوالها المتعاقبة على المعنى المراد؛ (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي: حالاً بعد حال، أو أمراً بعد أمر، كما قال عمر رضي الله عنه، وعن مكحول: في كل عشرين عاماً تحدثون أمراً لم تكونوا عليه، وعن قتادة: هو التردد بين البلاء والرخاء.
وهي إشارة إلى التحول في التكوين الإنساني، والحياة البشرية، ويتضمن الترقي في مدارج العمر من الطفولة إلى الهرم، وأحوال الحياة والمعرفة والعلاقة(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل) هي سنة إلهية أن الإنسان يترقى، وحين تتأمل تعبير الركوب، وتعبير الطبق، فهو يرشح لمعنى السمو والصعود أكثر من غيره.
وهذا الركوب منه قَدْر فطري قَدَرِي إلهي تجري به السُّنَّة ويحتّمه مرور الأيام والليالي.
ومنه قدْر اختياري كسبي يحصل عليه الإنسان بجهده وكده وعمله وتفكيره.
والسياق يعطي للمؤمن رغبة في التطوير والترقي وعدم الإخلاد للحال التي هو عليها، سواءً حاله الفردية، أو حال الجماعة والأسرة والمجتمع والدولة.
إنها دعوة إلى التغيير الإيجابي الفاضل، وتأكيد إلهي على أن بقاء الحال من المحال، وأن الانتقال من وضع إلى آخر هو سنة الله في عبادته، وتاريخهم كله شاهد على هذا.
الكون يتغير، والنجوم تتألق ثم تأفل، والقمر يتسق ثم يتضاعف ثم يغيب، والليل يعقبه نهار، والشمس تشرق ثم تأفل، فلماذا تعتقد أيها الإنسان، أيها المؤمن أنك مطالب بالمكث حيث أنت، وكأنك أبو الهول، تمر عليك الليالي والأيام وأنت جاثٍ جاثم لا تتحرك ولا تلتفت ولا تؤثر، ولا تتأثر. أصخرةٌ أَنَا..! مَا لِي لَا تُحَرِّكني هذي الهمومُ ولا هذي الأغاريدُ؟
وحتى أبو الهول! أتظنه سرمداً لا يحول ولا يزول؟ هيهات؛ وقد حالت أحوال، ودالت دول، ومضت قرون وأعصار، وأمصار، فما شأنك أنت؟
وإلى متى أنت غارق في صغائرك؟ قابع في زواياك؟
قانع باليسير التافه وقد أخذ الناس أخذاتهم ونزلوا منازلهم!
هذه فرص العمل والإنجاز تتبرج وتستفز وتقول: (هيت لك) وأنت تقول: معاذ الله!
وما دعتك إلا إلى عمل رشيد فيه قوام الدين وصلاح الدنيا، فإلى متى التباطؤ والكسل والإخلاد؟! وإلام الاستغراق وقد نادى المناد (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)
وحين قارنت نفسك بسواك فهلا جعلت المقارنة مع المجددين والمبدعين والمؤثرين، وليس مع الكسالى والمعزولين!
ولقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن آية الانشقاق خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيركب طبقاً بعد طبق، وقرؤوها بفتح الباء (لَتَرْكَبَنَّ) أي: يا محمد، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم برفعة أمره، وكثرة أنصاره وأتباعه وإعزاز دينه، وغنى أمته، وقيادتها للركب الإنساني ردحاً من الزمن، فضلاً عما وعده به ربه سبحانه من المعراج إلى السماوات ورؤية الأنبياء، وتكريس الوراثة الربانية له ولأتباعه.
وكان صلى الله عليه وسلم كل يوم يزداد قرباً من ربه، ومعرفة به، وسمواً في معارجه ومدارجه، حتى قال له ربه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(الحجر) فقبضه وهو في أتم حالاته عليه السلام، وكان يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى.
وكان الشافعي يقول: إذا مضى يوم لم أزدد فيه علماً؛ فلا بورك لي في ذلك اليوم. والأمر لا يتعلق بمعلومات إضافية يصفّها المرء في خزانة عقله، بل بالمعرفة الإيجابية المنعكسة على الفهم والتجربة والشخصية والسلوك والتفكير؛ ليبدو الإنسان كل يوم وكأنه كائن جديد، يتألق ويحلّق ويضيف ويطور ويصحح ويراجع بصبر ودأب. إذا لم تكن لك غاية إلا الحفاظ على انطباع جلسائك وأصدقائك عنك؛ فأنت في أزمة تعصف بمستقبلك، وترهنك لما لا ينفعك ولا يضرك.
ولله ما أجمل تعبير العقاد:
فَفِي كُلِّ يومٍ يُولد المرءُ ذو الحجى وفي كل يوم ذو الجهالة يُلحد!
وما أكثر من يُلحَدون (بضم الباء وفتح الحاء) في قبورهم كل ساعة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.