صديق آخر تعرفت عليه من خلال الكتاب. حين تعرفت عليه قلت بيني وبين نفسي: الحمد والشكر لك وحدك يا الله لأنك دللتني على هذا الصديق العظيم. الشكر لك وحدك لأنك عرفتني يوماً على هذا الإنسان. ماذا يريد الإنسان أن يترك في دنياه عندما يرحل إلى الدار الآخرة؟ هل يريد أن يترك أثراً إيجابياً عند أصدقائه وأحبابه؟ أم يرحل كما أتى إلى هذه الدنيا, لا شيء يستحق الذكر!؟ إن رحل دون أن يترك شيئاً فهو لم يعش هذه الحياة, لم يعش لنفسه ولا من أجل الآخرين. أما أن تترك أثراً طيباً وتزرع ابتسامة في شفاه من تحب .. لهو والله هو المقصد من هذه الحياة. أن تعيشها وأنت تحب, وتغادرها وأنت تحب وتكون محب .. محب من قبل أصدقائك ومحبيك. قد يعتقد البعض أني أحمل رؤية مثالية لا تصلح في هذا العالم الواقعي .. أنا لا أتكلم من فراغ .. أتكلم عن تجربة ومعايشة .. هذه التجارب كان ثمارها هؤلاء الأصدقاء وهذا الصديق الذي لن أتوقف عن شكر الله لأني تصادفت معه يوماً دون أي تخطيط مسبق. بالمناسبة, هذا الصديق - ماشاء الله - يتفوق على صاحبنا الثاني صاحب لسان العرب بالحديث بالفصحى الجميلة القادرة على إجبارك على الصمت والإستماع إليه. أنا أحب دستويفسكي, هذه المحبة - الأدبية - أجبرتني على الصمت بداية هذه السنة من أجل أن لا أحرق بقية أعماله علي, أريدها أن تعيش معي لسنين طويلة, أملك كما قلت كل مؤلفات هذا الروسي العتيد, ولكن ينقصني كتاب هو عبارة عن محاضرات مهمة لأديب فرنسي كتب مقالات وألقى محاضرات عن الأدب الروسي وعن دستويفسكي بالتحديد. طار الكتاب من بين يدي مرات عديدة, وبفضل هذا الصديق, هذا الكتاب الذي ابحث عنه احتل مكانه في مكتبتي. إني أقسم لكم على ذلك: لم أهتم بدستويفسكي حين شاهدت الكتاب, بل اهتممت بتلك الصداقة التي كانت بيني وبين هذا الصديق الرائع, ولو كان الأمر بيدي لأهديت مكتبتي كلها له لأنه يستحق.
أخشى أن أطيل الموضوع .. وبودي أن أتحدث أكثر, عن أصدقاء أجمل. ربما أعود ذات مرة لأضيف أكثر عن هؤلاء, وهم موجودين وكان الرابط الذي يربطنا الكتاب.
أعود للإجابة عن السؤال في بداية الموضوع .. والتي ستكون ذات فائدة للجاحظ ذات يوم, ولكن سبق السيف العذل. كنت ابحث عن سيرة حياة فيرجينا وولف لهيرماوني لي. طلبت من إحدى قريباتي عندما زارت لندن أن تأتيني بالكتاب. وفعلت ذلك, أحدى الزملاء كانت يحدثني عن فيرجينيا وولف بإعجاب وذهول, قلت له سوف يصلك الكتاب غداً, وكنت صادقاً: أرسلتُ له الكتاب. بعد مرور شهرين صادف وجود أحد أقربائي في لندن, أرسل لي: ألا تريد كتاباً من لندن؟ قلت والله ما أطوفك. أريد كتاب سيرة فيرجينيا وولف. ووصلني الكتاب مرة أخرى. وعاد إلى مكانه من جديد في مكتبتي. قبل أسبوعين أحد الأصدقاء كذلك - ودون أن أشير بالحديث إلى فيرجينيا وولف - كان يحدثني عن وولف, وعن بحثه الذي انطلق يكتبه بشغف عن وولف. قلتُ في نفسي: هذا هو أفضل وأجمل وقت لتفاجئه بكتاب سيرة فيرجينيا وولف. وبينما كان صديقي في منزله لا يعرف شيئاً تفاجئ بالكتاب يدخل إلى منزله دون أن يعرف, ويُقدم إليه. هذا الكتاب جداً جميل, ولا أبالغ إن قُلت أنه من الكتب المهمة في مكتبتي, ولكن ماهو الأجمل: أن يبقى الكتاب في مكتبتك صامتاً لا يتحرك, أم تخرجه للصديق لتسمع منه شهقة التفاجئ وشعور الفرح الذي يغمره عندما يمسك بين يديه كتاب جد ثمين؟ الكتاب حتى لو كان نادر الوجود, لا بد أن يأتي يوم وتشاهده ذات مرة, سوف يأتي يوم, هذا الكتاب الذي غادر مكتبتك سيعود ليأخذ مكانه من جديد. أما أصدقائك وشعور الفرح الذي تغمرهم به, صدقوني لا يوجد أجمل منه ولا أروع. لا يوجد أجمل من أن تزرع ابتسامة حقيقية صادقة في وجه من تحب ويكون رابطكم الكتاب. قبل أن أهدي كتاب وولف بأيام, كان أحد أصدقائي في منطقة بعيدة نوعاً ما. هذا الصديق قارئ بارع وممتع, قارئ أدب وفلسفة, ولكن المكان حكم عليه بألا يجد ما يريد قراءته إلا إلكترونياً ويا للآسف. أحببت أن أفاجئة يوماً دون أن يعرف. ولأني أعرف أن هناك كتاب سيدخل السرور إلى قلبه بادرت بأخذ الكتاب من مكتبتي وأهديته له. الكتاب غير متوفر بالمكتبات مع الاسف. حدثني قائلاً بعدما وصلت إليه الكتب, قال : أتمنى لو كنت معي لحظة فتح الطرد البريدي .. لو كنت موجوداً معي لصدمت من الصرخة التي أطلقتها عندما رأيت العنوان وصورة هذا الرجل التي تغطي الكتاب. أنا سعيد بك وأكثر. لو علم الجاحظ بقيمة هذه الصرخات التي تنطلق فرحاً وطرباً لأهدى مكتبته كلها لأحبائه, وبدل أن تتساقط الكتب عليه لتغمره, ستسقط عليه قلوب أحبابه لتغمره بالحب. أجيب عن السؤال الذي طرحته بداية الموضوع: لو طلب أحداً ما مجموعة دستويفسكي التي لدي, أنا مستعد أن أهديها له بكل حب, بشرط: أن يكون مثل هؤلاء الأصدقاء الذين ذكرتهم. والذين لم أذكرهم بسبب ضيق الوقت كذلك.
مع التحية للجميع :d
*
* مما راق لي