قال الإمام البخاري (رحمه الله):
حدثنا عبيدالله بن سعد بن إبراهيم حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنّة: يا ربّ ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟، وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين، فقال الله (تعالى) للجنّة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكلّ واحدة منكما ملؤها، قال: فأمّا الجنّة فإنّ الله لا يظلم من خلقه أحداً، وإنّه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول: هل من مزيد ثلاثاً، حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ ويردّ بعضها إلى بعض وتقول: قط قط قط.
هذه الزيادة ليس في شيء من طرق الحديث الأخرى:
1) ليست في طرق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة،
2) وليست في طرق محمّد بن سيرين عن أبي هريرة،
3) وليست في طرق همّام بن منبه عن أبي هريرة،
4) وليست في طرق عبدالرحمن بن عوف الجهني عن أبي هريرة،
والذي عند هؤلاء هو:
"فأمّا النار فلا تمتلئ حتى يضع الربّ (تبارك وتعالى) فيها رجله، فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله (عز وجل) من خلقه أحداً، وأمّا الجنة فإنّ الله (عز وجل) ينشئ لها خلقاً".
: موضع الإشكال في قوله:"وإنّه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها" وإليك ما تيسر من أقوال المحققين في ذلك:
قال شيخ الإسلام"وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه وفي رواية فيضع قدمه عليها فتقول قط قط وينزوى بعضها إلى بعض أي تقول حسبي حسبي وأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشىء الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة"
هكذا روي في الصحاح من غير وجه ووقع في بعض طرق البخاري غلط قال فيه:" وأما النار فيبقى فيها فضل" والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب ليبين غلط هذا الراوي كما جرت عادته بمثل ذلك إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب وما علمت وقع فيه غلط إلا وقد بين فيه الصواب بخلاف مسلم فإنه وقع في صحيحه عدة أحاديث غلط أنكرها جماعة من الحفاظ على مسلم والبخاري قد أنكر عليه بعض الناس تخريج أحاديث لكن الصواب فيها مع البخاري والذي أنكر على الشيخين أحاديث قليلة جدا وأما سائر متونهما فمما اتفق علماء المحدثين على صحتها وتصديقها وتلقيها بالقبول لا يستريبون في ذلك" اهـ منهاج السنة النبوية : 5 / 101-102.
وقال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح ص: 278:"و أما اللفظ الذي وقع في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة و انه ينشئ للنار من يشاء فيلقى فيها فتقول هل من مزيد فغلط من بعض الرواةانقلب عليه لفظه والروايات الصحيحة و نص القران يرده فان الله سبحانه و اخبر انه يملا جهنم من إبليس و اتباعه فانه لا يعذب ألا من قامت عليه حجته".اهـ
وقال أيضا في معرض كلامه على أولاد الكفار وهو يسوق حجج من قال إنهم في النار:" واحتجوا بما روى البخاري في صحيحه في احتجاج الجنة والنار عن النبي قال وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها قالوا فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى قال شيخنا وهذه حجة باطلة فإن هذه اللفظة وقعت غلطا من بعض الرواة وبينها البخاري رحمه الله تعالى في الحديث الآخر الذي هو الصواب فقال في صحيحه ثنا عبدالله بن محمد ثنا عبدالرزاق ثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال قال النبي:" تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم قال الله عز وجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهنالك تمتليء ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقا"
هذا هو الذي قاله رسول الله بلا ريب وهو الذي ذكره في التفسير وقال في باب ما جاء في قول الله عز وجل إن رحمة الله قريب من المحسنين:
ثنا عبيدالله بن سعيد ثنا يعقوب ثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال اختصمت الجنة والنار إلى ربهما فقالت الجنة يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار ما لها لا يدخلها إلا المتجبرون فقال للجنة أنت رحمتي وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها قال فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا وإنه ينشيء للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول هل من مزيد ويلقون فيها وتقول هل من مزيد ثلاثا حتى يضع قدمه فيها فتمتليء ويزوى بعضها إلى بعض وتقول قط قط .
فهذا غير محفوظ وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فجعلوه إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال وله نظائر من الأحاديث المقلوبة من المتن
وحديث الأعرج عن أبي هريرة هذا لم يحفظ كما ينبغي وسياقه يدل على أن راويه لم يقم متنه بخلاف حديث همام عن أبي هريرة".اهـ أحكام أهل الذمة 2 /1104- 1108.
وقال رحمه الله في طريق الهجرتين 1 / 577 بعد أن ذكر الحديث:"فهذا غير محفوظ وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا"اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث(7449) في البخاري:" وَقَدْ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْأَئِمَّة : إِنَّ هَذَا الْمَوْضِع مَقْلُوب , وَجَزَمَ اِبْن الْقَيِّم بِأَنَّهُ غَلَط وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ جَهَنَّم تَمْتَلِئ مِنْ إِبْلِيس وَأَتْبَاعه وَكَذَا أَنْكَرَ الرِّوَايَة شَيْخنَا الْبُلْقِينِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ ( وَلَا يَظْلِم رَبُّك أَحَدًا ) ثُمَّ قَالَ وَحَمْله عَلَى أَحْجَار تُلْقَى فِي النَّار أَقْرَب مِنْ حَمْله عَلَى ذِي رُوح يُعَذَّب بِغَيْرِ ذَنْب اِنْتَهَى" .
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري::" قوله: (وأما النار فينشئ لها خلقًا): فهذا وهم وانقلاب من بعض الرواة، عند المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم؛ لأن الله -تعالى- من كمال عدله لا يعذب أحدًا من غير ذنب. والصواب: (فأما الجنة فينشئ الله لها خلقًا...).
وهذا مما ينتقد على الصحيحين. ومثله الحديث الذي رواه مسلم، رحمه الله , حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله - فانقلب على بعض الرواة، والصواب , حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه - والشاهد من الحديث قول النبي r في الجنة: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء).
فقوله: (أنت رحمتي) أي: الرحمة المخلوقة، وهي أثر من آثار رحمة الله U التي هي صفة من صفاته.
فائدة:
قول بعض الشراح (لا محذور في تعذيب الله من لا ذنب له، إذ القاعدة القائلة بالحسن والقبح العقليين باطلة...) إلخ.
قلت: هذا الكلام ليس بصحيح، إنما يتمشى هذا الكلام مع مذهب الجبرية والأشاعرة، فقوله (لا محذور في تعذيب الله..) على مسألة الحسن والقبح، هذا على مذهب الأشاعرة الذين يقولون: (إنه يجوز لله أن يعذب أحدًا بغير جرم، ولا يكون هذا ظلمًا؛ لأن الله -تعالى- يتصرف في خلقه كيف يشاء، إنما الظلم هو تصرف المالك بغير ملكه). هذا الكلام باطل كما ذكرت، فالصواب أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. " اهـ
وانظر- غير مأمور- شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري لشيخنا الغنيمان حفظه الله 2/194-195 .