يسأل بعض الأخوة الكرام
عن
حكم رثاء الميت
وانقل لكم أفضل وأجمع ما اطلعت عليه
من كتاب الفروق للإمام القرافي رحمه الله
قسّم القرافي في "الفروق" (2/174) المراثي إلى أربعة أقسام ، فقال :
" لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَرَاثِي وَعَدَمِ تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا , وَإِنْ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَرَاثِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :
حَرَامٌ كَبِيرَةٌ ، وَحَرَامٌ صَغِيرَةٌ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَنْدُوبٌ .
, أَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ فَكُلُّ كَلَامٍ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ وَيُوضِحُ لِلْأَفْهَامِ نِسْبَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ ، وَالتَّبَرُّمِ بِقَدَرِهِ , وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً ، بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً ، فَيَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ يَكُونُ حَرَامًا كَبِيرَةً نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا .
كَأَنْ يَقُولَ الشَّاعِرُ فِي رِثَائِهِ :
مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ
فَيَتَضَمَّنُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ :
"مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ" تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ , وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ , وَمَتَى تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا ؟ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَيُشِيرُ قَوْلُهُ : "يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ" إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ , وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كُفْرًا صَرِيحًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ
فَلِذَا لَمَّا حَضَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْمَحْفِلِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ لِعَزَاءِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ , وَأَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَّتِهِ : مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَسَمِعَهُ الشَّيْخُ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ وَأَغْلَظَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ , وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ , وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا , ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْ الْمَيِّتِ , وَالشُّعَرَاءُ كَثِيرًا مَا يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ مِثْلِ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ .
وَهَذَا الْقِسْمُ شَرُّ الْمَرَاثِي .
وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ صَغِيرَةٌ فَكُلُّ كَلَامٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ , وَيُهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجرِهِمْ , وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ ، يَكُونُ حَرَامًا صَغِيرَةً .
وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ الْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ بَلْ ذُكِرَ فِيهِ دِينُ الْمَيِّتِ , وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ . وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ , وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ ، يَكُونُ مُبَاحًا خَالِيًا عَنْ التَّحْرِيمِ .
وَأَمَّا ضَابِطُ الْمَنْدُوبِ مِنْ الْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ زَادَ عَلَى مَا فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ وَحَثِّهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ , وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوُ ذَلِكَ ، يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مَأْمُورًا بِهِ .
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ ، فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فَلَمَّا دخل عليه قال :
اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ فَإِنَّمَا صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ
خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ وَاَللَّهُ خَيْرٌ مِنْك لِلْعَبَّاسِ
فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سَرَّى عَنْهُ عَظِيمَ مَا كَانَ بِهِ .
وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاءِ ، مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ ، مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ ، مُحْسِنٌ لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ ، مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ , فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ .
وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ َالْمَرَاثِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ " انتهى باختصار .
http://mdous.maktoobblog.com