

( الجزء الأول )
الأقفال السبعــــــة
قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
كان أبو الحسن الورَّاق شديد الإعجاب بصاحبنا يسار ، وكان يرى فيه مثال الورع والتقى ، وأنه من جملة السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله ، يوم لا ظل إلا ظله .
وعندما حدث ما حدث ، وانحدر يسار إلى ما انحدر إليه ، تأسف أبو الحسن كثيرًا ، وأخذ يضرب كفًا بكف ويقول :
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. والله إنها لمصيبة ، والله كنت أظن أن إبليس أعجزُ من أن يصل إليه ، أو ينال منه .. ولكن هذه الجارية !!.
ولقد ذكر بعض شيوخنا حفظهم الله ، أن الجارية الفارسية كانت في غاية الحسن والجمال ، وكانت إلى ذلك تتقن عددًا من الفنون وتتكلم اللغة العربية مشوبة بلكنة أعجمية تزيد من كلامها رقة وعذوبة وتجذب إليها القلوب ، وتستهوي أصلب الرجال عودًا ..
ويقسم أبو الحسن الورَّاق ، إنه لم ير الجارية ، ولم يرفع إليها نظره ، وإن كان دارها قريبًا من داره ، وهو يقول :
- رب نظرة أورثت القلب ألف حسرة .
ويتمثل بالآية الكريمة : } قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم { .
وبداية القصة ، كما أخبرنا بها الشيخ أبو محمد المؤيد بالله ... أنه كان يُعقد في بيت الجارية ، مساء الثلاثاء من كل أسبوع ، مجلس للطرب واللعب والغناء ، وكان يحضره شباب من القوم ، منهم أبو محمود حكيم بن محمود ، وحسَّان بن معيقيب ، وحبيب بن مسعود الجصاص ، وغيرهم ممن لم يتذكر أسماءهم الشيخ .. ونعوذ بالله من الخطأ والنسيان .
وقد تأخر ذات يوم عن الحضور في الوقت المعين ، سعيد بن منصور الذي يقع بيته قريبًا من سوق العطَّارين ، مقابل بيت الشيخ أبي العرفان ، بهذا أخبرنا الشيخ حفظه الله .
قال ، وعندما حضر بادره الجميع بقولهم :
- أين كنت ؟
فأجابهم وهو يتخفف من بعض ملابسه ، وعلامات التأثر بادية على وجهه :
- التقيت هذه الليلة بيسار ..
وسرت في نفوس القوم هزَّة خفية ، وساد المكان سكونٌ شامل ونظرت الجارية بعينيها اللوزيتين ، وقاربت ما بين حاجبيها ، وسألت .
- ومن يسار هذا ؟
فأجابها حبيب بن مسعود ، وكان على صلة قديمة بيسار :
- أنا أعرف القوم بحاله .
وأخذ يحدثها بكل ما يعرف عنه ، عن علمه وورعه ، وزهده وتواضعه وعن حسنه وأخلاقه وعذوبة منطقه .
وسكت قليلاً ، ثم أضاف قائلاً :
- نظرة واحدة إليه تكفي لاستيعاب كل ما كتبه الزهاد .. فما حوى الكتاب بين دفتيه ، ترينه في هذا الفتى الذي يسير على قدميه .
وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وقال :
- ذلك الرجل عرف الطريق إلى ربه ..
قال أبو العرفان : فأنصتت الجارية بكل اهتمام ، وأخذت بما سمعت ، وعزمت في قرارة نفسها على أن تحظى به ..
كانت غرفة الاستقبال مفروشة بالسجاد العبقري الموشى ، والستائر خضراء تتخللها خيوط صفراء بلون الذهب ، والقناديل الملونة تتدلى من السقف وهي تتمايل سكرى . وفي زوايا الغرفة قناديل أخرى تفوح منها رائحة المسك .
ومالت الجارية برأسها ، وسألت حبيب بن مسعود :
- هل هو متزوج ؟
واستطاع أبو محمود ، وكان حاضر النكتة ، سريع البديهة ، يتقن اللغة التركية ، وعددًا من اللغات الأعجمية ، وكان قد سافر إلى بلاد شارلمان وجرت له من الحوادث ما لا يتسع المجال لذكرها .. قال ، وكان يتحف الحاضرين بما رأى في تلك البلاد ..
استطاع أبو محمود أن يدرك ما يدور في خلد الجارية ، فقال وهو يضحك :
- لا سبيل لك إلى يسار .
فالتفتت إليه متحدِّية وقالت :
- سوف ترى ..
وسكتت قليلاً ثم أضافت :
- وإذا استطعت أن أحضره إلى هنا ؟
فنهض أبو محمود وهو يضحك ، وأخرج ألف دينار ضرب بها المنضدة وهو يقول مشجعًا :
- ما هاهنا لك إذا استطعت أن تفعلي .
فصاح حبيب بن مسعود :
- اتقوا الله ، واتركوا الرجل في عالمه .
واسترسل أبو محمود ضاحكًا وهو يقول :
- سوف يأتي إلى هنا .. سأسقيه الخمر بيدي .
ورفعت الجارية يدها ، تتحسَّس القرط اللؤلئي الذي يزين أذنها ، ثم نادت الخادم ، فأقبل ، طويلاً دون المشذب أسود ، جميل التقاطيع .. أحضر لها رقعة ، كتبت عليها شيئًا وطوتها بعناية فائقة ، ولفَّتها في منديلها المعطَّر ، ثم التفتت إلى سعيد بن منصور وقالت :
- أين نجد يسارًا في هذه الساعة ؟
فأجابها وهو يشير بيده :
- رأيته متجهًا إلى بيت القاضي بعد صلاة العشاء .
فنهض حبيب بن مسعود ، واقترب منها يريد أخذ الرقعة من يدها وهو يقول :
- لا تفعلي .. بالله عليك .
ولكنها ضحكت ودفعت يده بيدها اليسرى ، فرنت الأسورة التي تزين يدها ، ثم مالت فأسرَّت في أذن خادمها شيئًا ، ثم ناولته الرقعة ..
وقبل أن يخرج صاح حبيب بن مسعود منفعلاً ، وأخذ يردد :
- إن دون الوصول إلى اليسار سبعة أبواب عليها سبعة أقفال من حديد .
قال أبو الحسن الورَّاق : وما هي إلا ساعة ، حتى عاد عربيد بوجهٍ جامد خالٍ من التعبير . وناولها المنديل دون أن يتفوَّه بكلمة . فأخرجت الرقعة ، وألقت عليها نظرة خاطفة ، ثم قفزت بثوبها الأبيض الفضفاض ، وشعرها الأسود الطويل وهي تحمل الرقعة بيدها اليمنى وتقول :
- هذا هو القفل الأول قد انفتح .
وعلت الدهشة وجه حبيب ، ولم يصدق سعيد بن منصور أذنيه ، وبقي حسَّان بشعره المجعَّد وعينيه الخضراوين ينظر إليها دون أن ينطق ، أما أبو محمود ، فقد أخذ يصفق ويصيح :
- ألم أقل لكم .. سأسقيه الخمر بيدي ..
وانفجر حبيب بن مسعود ، وقد التهب وجهه الصغير بالغضب ، وضرب بقبضة يده على المنضدة وهوَّل يقول :
- مستحيل ..
قال أبو الحسن الورَّاق : أما الجارية ، فقد استمرت كالفراشة الجميلة تدور في المكان ، وهي تحمل الرقعة بيدها وتقول :
- هذا هو القفل الأول قد انفتح .. انظروا ..
وألقت الرقعة على المنضدة ، فتسابقت الأيدي للحصول عليها والاطِّلاع على ما فيها ..
يتبع
