من ذكرياتي عن أهل نجد في الشام وعلاقة الشيخ فوزان السابق بالميدان والسلفيين
زهير الشاويش
لأهل نجد هجرات متأخرة الى دمشق وما حولها منذ مطلع القرنين الماضيين وقبلهما، وهناك هجرات كثيرة دعت اليها حاجتهم التجارية، والعلمية، او اضطرتهم اليها عوامل المناخ والجفاف وبعض الخصومات المحلية، وكان منها دخولهم مع القوات الحاكمة من تركية، او مع جيش محمد علي حاكم مصر، ثم مع الملك فيصل بن الحسين الهاشمي، فضلاً عن القيام بالتجارة الواسعة بين سورية والعراق وفلسطين ومصر.
وأواخر القرن التاسع عشر الميلادي، كانت قوافلهم شبه متفردة في نقل البضائع بين دمشق، وبغداد، والكويت. وكان منهم الشيخ فوزان السابق - رحمه الله - صاحب الوجاهة الواسعة فيهم.
وكان معهم ثلة من أهل حي الميدان في دمشق، كانت تشاركهم او تزاحمهم بذلك. وكان منهم والدي مصطفى بن أحمد الشاويش، وفارس آغا المهايني، وصادق آغا الرجال رحمهم الله، وعدد من العائلات التجارية، مثل: بيت الصباغ، والنوري، ورحمون، وسكر، ونقاوة... الخ.
وقد شهدت اواخر الصلات العميقة بين الشيخ فوزان السابق وبين والدي، يوم كان يزوره في مصر بين السنوات 1935- 1945، وكان يشهد الكثير من تلك الجلسات العالم المؤرخ الأستاذ خير الدين الزركلي أمين سر المعتمدية السعودية يومها. وكنت احضر مع والدي - على صغري - تلك اللقاءات.
وكان أكثر ما يدور بينهم من حديث ينصب حول تلك الأسفار (الطرشات)، وما كان يعتريهم من متاعب، واحياناً عن الخيل الاصائل، وكيف كان أحدهم يسبق أخاه في الحصول عليها، وكيف كانت حجج (وثائق) أصول ونسب كل فرس تأخذ وتحفظ بعد أن تصدق بالتواقيع والأختام، والكلام عن نوع المشاركة في الفرس، وما في بطنها بين بعضهم.
توزيع الكتب السلفية
وكانت تدور بينهم أحاديث عن الحركة السلفية في دمشق، حيث كان للشيخ فوزان جولات فيها، وحتى مع خصومها. وكان يرسل مع والدي وغيره من التجار من مصر - الى دمشق المطبوعات على حساب الملك عبدالعزيز تغمده الله برحمته، حيث تسلم الى العلامة الشيخ بهجت البيطار، او السياسي الواعي الشيخ محمد كامل القصاب، او الشيخ محمد الفقيه المصري، او الشيخ مسلم الغنيمي، او السيد صبحي القصيباتي، وغيرهم من العلماء، ثم توزع على اهل العلم، وكلها من كتب شيخ الاسلام ابن تيمية (مجموعة طبعها منصور بن الرميح)، او كتب امام الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، او الامام ابن كثير وغيرهم، وأكثر ما طبعه المصلح الشيخ محمد رشيد رضا، او الشيخ حامد الفقي رحمهم الله.
وهذه الكتب كان لها الاثر الكبير في نشر الدعوة بديار الشام، وقد كان فضل الله علينا عظيماً، حيث يسر الله لوالدي تأمينها، ثم استخدمني سبحانه وتعالى لها بعد ذلك قبل اواسط القرن الماضي بالقيام على طبع كتب الدعوة في المكتب الاسلامي وحتى اليوم، وذلك من نعم الله علينا.
واذكر انني يوم كنت مع والدي في مصر سنة 1941او نحوها، واعطانا مجموعة من الكتب ليقوم والدي بنقلها الى دمشق وتوزيعها... وكانت ضمن حقيبة (شنطة) جلد جيدة جيداً، لاحظ الشيخ فوزان اعجابي الصامت بتلك الحقيبة؟، ولم يكن هناك كراتين لوضع الكتب.
فنادى أحد رجاله وكلمه سراً... ورجع هذا ومعه حقيبة أحسن وأكبر من تلك، وقدمها الي هدية ووجدت فيها كمية كبيرة من الواح الشوكولا، تصلح لطفل عمره ثلاث عشرة سنة.
فرحم الله الشيخ فوزان السابق كم كان كريماً ولماحاً.
وكانت الرحلات تخرج من دمشق ويرأس جماعة (العكيل) غالباً الشيخ فوزان السابق، وكان ينضم اليهم مجموعة أهل الميدان، ويرأسها محمد المعراوي (أبو قاسم)، او والدي مصطفى الشاويش، وممن اذكر من هؤلاء: عبده ابو هندة، وفياض الكاوردي، وابي محمد قاسم الامعري وغيرهم.
وقد يتم الترافق بين الفريقين حتى يصلوا الى الرزازة على شاطئ الفرات، وهناك يكون التفرق بين من يذهب الى مضارب الشيخ فهد بن هدال لشراء الابل والخيل والرز والتمر، وبين من يذهب الى بغداد (بعد شراء الجمال) ليحمل منها الى دمشق السكر والاقمشة الهندية، والبن، والتوابل، بأجور تدفع لهم من تجار دمشق.
غزوة ملبس بن جبريل
كانت بادية الشام موزعة على العديد من العشائر، وكانت عشيرة عنزة تملك اكثر البادية من اواسط ما عرف بعد ذلك بالمملكة العربية السعودية، والشامية غربي الفرات وهي السماوة، وهي في غالبها للدولة العثمانية تابعة للحكم في بغداد، والتي يرأسها الشيخ فهد بن هذال (عشيرة العمارات) ويقيم في الصيف بالرزازة.
والمنطقة الغربية منها كانت تابعة للحكم في الشام، والمستولي عليها الشيخ النوري بن شعلان وله اقامة في الصيف بقرية عدره.
ومنطقة حلب كان يحكمها الشيخ مجحم بن مهيد ويقيم في قرى شرق حلب، وفي الجزيرة كانت قبيلة شمر، وكانت باشراف عائلة العواصي الباشات، وأشهرهم الشيخ الياور عجيل، ويزاحمه ابن عمه الشيخ دهام الهادي.
ومع ذلك كان هنالك الكثير من القبائل الصغيرة، واذا انفرد شيخ فيها بالتجار اثناء مرورهم من منطقة يوقف المسافرين ويأخذ منهم (الخوة).
وكان أهل نجد لا خوة عليهم لأنهم لهم ارتباط بعشائرهم. واهل الشام يدفعون الخوة اذا مروا بأرض عراقية، ولا يدفعون شيئاً اذا مروا بأرض عشيرة الرولة، ولتجار حلب وحماه وحمص اتفاقات اخرى مع قبائلهم.
وأما قبائل الشوايا الذين يربون الاغنام في اطراف القرى وحول دجلة والفرات والخابور، فلا يأخذ أحد منهم شيئاً، وذلك لأن للتجار سلطانا عليهم في المدن القريبة، واما اهل البادية فحصتهم داخل البادية.
وقبائل الاردن وضعهم يشبه وضع عربان سورية، وكانت أشهرهم السردية والخريشه.
ومع ذلك فقد كانت تحدث اطماع من بعض البدو، ويعتدون على القوافل، سواء كانت لعكيل او للشام او غيرهم.
وصادف مجيئ والدي والشيخ فوزان السابق بعبورهما مع قافلة كبيرة في المنطقة الخارجة عن ارض ابن هذال (عنزة) ان جاءهم غزو من قبل ملبس بن جبريل (شمري) وباغتهم ليلاً، وساق اكثر جمال القافلة، بعد ان قتل عدداً من الرعاة، وجرح الشيخ فوزان السابق، وجرح والدي بيده (وقد بقي ما يشبه الكسر حتى وفاته رحمه الله تعالى). وما اعيدت الاموال إلا بعد تدخل العشائر بشكل فعال، وضاع عليهم المال الكثير. وبقي والدي عند ابن هذال يعالج الكسر في يده لثلاثة اشهر.
أين المال
ولما عاد (أكثر القافلة) وجد ان كيس المال الذي وضع والدي فيه ما معه، وهو مبلغ كبير، وكذلك المال الذي مع الشيخ فوزان كذلك قد فقدا؟
ورجع الوسطاء بخفي حنين بعد ان حلف لهم ملبس بن جبريل اغلظ الايمان بأنه وكل من معه ليس عندهم علم ولا خبر. وكان من الوسطاء معتمد الأمير عبدالعزيز آل سعود.
وكان من حنكة الشيخ فوزان، ان سأل ملبس: "هل كل رجالك معك؟".
فقال: لا، لقد فقدنا ثلاثة، قتل اثنان في المعركة، ولم نجد الثالث؟.
فقال فوزان: اذن مالنا ومال الشامي مع خويك الثالث الذي هرب بعيداً عنا وعنكم، فكلف اثنين من جماعتك يذهبوا مع واحد منا الى مضارب عشيرتكم واحضروا لنا الشخص والمال.. وهكذا كان فوجدوا اكثر المال.
وملبس يومها كان من العشائر المتدينة التي دخلت في الدعوة، ولكن كان فيهم جهل واضطراب في احوالهم.
وقد ارجع الله الامن لتلك الارض في الدولة السعودية بعد ان تسلم البلاد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله.
وفي العهد الفرنسي جاء ملبس بن جبريل لدمشق، ونزل في بيت تابع للمعتمدية السعودية، فذهب والدي مطالباً ملبس بباقي المال الذي ذهب لهم، ودية القتيلين من قافلته، وكان معه الشيخ محمد العصيمي (من وجهاء العشائر في الخليج والمقيم في دمشق) والزمت المعتمدية ملبساً بن جبريل (وكان يشرف عليها الشيخ عيد الرواف) بدفع المبالغ المفقودة، واما الديات فترك أمرها الى اهل القتلى وهما من عشائر السعودية.
وكان العصيمي وكيلاً عن الشيخ فوزان السابق، وقبض من ابن جبريل ما قال انه فقده.
وكان والدي يتجر لنفسه من ماله مع شريك له بدمشق هو محمود آغا فرعون (والد الدكتور رشاد الوزير السعودي فيما بعد).
وأحياناً يذهب الى شمال العراق، ولا يرجع عن طريق وسط منطقة ابن هذال او ابن مجلاد، بل يعبر الفرات من منطقة راوه وعانة ويعبر الفرات ويتابع الى الغرب نحو قرية ابي هريرة قرب الرقة (حيث هناك قبر لسيدنا ابي هريرة رضي الله عنه)، ويعبر البادية جنوباً بالقرب من القرى الى دمشق. اذا كان معه الاغنام، واما اذا كانت تجارتهم بضائع فكانوا يتجنبون القرى، خوفاً من السارقين، ونهب عشائر الشوايا، ويقطعون الصحراء من عانه او البوكمال الى السخنه وتدمر الى ضمير فدمشق (وقد سرت في هذين الطريقين عدة مرات اواخر تجارة والدي بالخيل، وكان عمري 14سنة، و 19سنة)، وكان يرافقنا مجموعة من تجار الخيل من آل العجلان غيرهم.
وكنا نقطع البادية بالانتقال من بئر الى بئر خلال عشرين ساعة، وكانت الآبار قليلة، ماؤها مالح وهو بعمق لا يقل عن 30متراً، واحياناً كانت تسبقنا اغنام الرعاة الى البئر، ونضطر الى الانتظار ساعات حتى يفرغ السقاة، او يسمحوا لنا ببعض الماء لاعطاء الخيول شيئاً منه او ما نطبخ به طعامنا.
ومرة جئنا بئر (البغالي) واردنا ان نربط خيولنا فكنا كلما حفرنا (خية) لنربط حصاناً وجدنا عشرات العقارب فابتعدنا كثيراً حتى وجدنا مكاناً آمناً، وذهبنا على ارجلنا واخذنا الماء المالح.
ومرة عدلت عن الطريق الاقرب الى المرور حتى اشاهد آثار تدمر، وهناك استقبلنا من اهلها من كانوا يسكنون حي الميدان من آل الخطيب، وجماعة من عكيل الميدان، معهم تجارة من الزبير والكويت، وفيهم من آل الزبن، وحدثني أحدهم بأنهم وجدوا على احدى العواميد كلمة معناها (بنينا هذه الاوابد، بطول المدة، ومضاء العدة)، وكتبها لي على دفتر اعطاني اياه، وكان ذلك في سنة 1941في حزيران (كما يشهد جواز سفري).
وكانت اكبر جالية لهم في حي الميدان الوسطاني بدمشق، ولهم مقهى مشهور باسمهم تجاه زقاق العسكري.
إدارة الميتم السعودي
في سنة 1377هـ - 1957م بعد رجوعي من قطر، جاء اليّ رجل فاضل من آل الزبن ومعه الأستاذ اديب غالب الطرابلسي سكرتير السفارة، والسيد فهد المارك - رحمهما الله - من موظفي السفارة، واخبروني بأن الميتم السعودي (الذي انشئ لتعليم ابناء السعوديين في دمشق) تسلط عليه بعض الموظفين وخدعوا عدداً من الطلاب بتأثير الناصرية ورجال من المخابرات، وقاموا باضراب.. وطلبوا اليّ ان أتسلم المعهد وأوظف فئة مؤمنة من المدرسين لحفظ عقيدتهم، وانهم لا يعرفون أحداً يقوم بذلك سواي.
وفعلاً قمت معهم، وذهبت للمعهد فوجدت الامر كما قالوا، فطلبت الامهال حتى ارتب الامر. وتسلمت الادارة من غير ان احرك ساكناً، وتركت الصفوف تمشي بشكل طبيعي.
وفي اليوم الثاني احضرت عدداً من الأساتذة صباحاً، واكثرهم من اهل الميدان، يعرفهم الطلاب، وتسلموا الصفوف، وكلهم من رجال الدعوة الاقوياء. واستدعيت المدرسين السابقين المحرضين، وطلبت اليهم البقاء عندي في الادارة، لأن المدرسة هذه الايام تحتاج الى مدرسين للعقيدة والدين، وانتم معاشكم يمشي الى نهاية العقد، وعليكم الحضور والبقاء عندي في الادارة فقط، ولا يجوز لأحد منكم ان يتصل بالطلاب. وهكذا كان لمدة شهر تقريباً، فاستقام الحال.
وممن اذكر من الميدان عوائل كثيرة: بيت حجيلان وصار منهم وزراء، وآل العجلان، وبيت الرواف (وكان منهم المعتمد بعد الشيخ فوزان السابق الشيخ عيد الرواف)، وبيت الشبل، وبيت العثمان، وآل الزبن، وآل الجميل، وآل الحسن السليمان، والمارك، وآل الكحيمي ومنهم صديقنا السفير احمد، وآل الرميح، وآل المنقور ومنهم صديقنا الملحق الثقافي الأستاذ عبدالمحسن، وآل المزيد، وآل الشدوخي (أهل الدكتور فهد الطبيب الناجح في الرياض)، وآل التويجري، ومنهم صديقنا الدكتور في تبوك سعود التويجري، وآل العليوي، وآل الدخيل، والعصيمي، والمهنا، والعطية، والقبلي، والنحداوي، والقاضي، والمكاوي، والمدني، والرميخاني، والمسند، وغيرهم من العوائل الكريمة.
وأما من سكن قرى دوما، والضمير، ودير الزور، والبو كمال، فحدث عنهم ولا حرج. واما سكان الزبير فهم كانوا سكان تلك البلدة كلها، ومنهم آل عقيل وبينهم صديقنا الشيخ عبدالله بن عقيل الأمين المساعد لرابطة العالم الاسلامي السابق وآل المهيدب وآل المكنزي، وكذلك حي الكرخ وساحة الخضر في بغداد فإنها كلها منهم. وقل مثل ذلك عن سكان المطرية من مصر وتجارتهم بالخيل، وقرى امبابة حيث كانت تجارتهم بالجمال تملأ السوق المصري.
والحمد لله الذي عمم الخير في بلاد نجد والجزيرة ورجع الناس الى اوطانهم.
http://www.alriyadh.com/Contents/17-...hkafa_8379.php