بسم الله الرحمن الرحيم
سأل فضيلة الشيخ الدكتور صادق بن محمد البيضاني حفظه الله
(هل الساحر والعرَّاف والكاهن ومَنْ يدعي معرفة الأمور المستقبلية كافر أم لا ؟ وهل قول النبي عليه الصلاة والسلام : " من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " هل هذا يعد من الكفر الأكبر أو الأصغر ؟ )
فأجاب فضيلته:
أما الساحر فهو من يخيِّلُ لغيره أمورًا متغايرة, وتأثيره ووجوده لا يمكن لعاقل إنكاره, بل هو واقع لا محالة وذلك بمشيئة الله وحده, ويقع بأمور خفية بعزيمة أو ربط أو شراب ونحو ذلك, ويعتبر السحر من الكبائر لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اجتنبوا([1]) السبع الموبقات([2])" قالوا: يا رسول الله وما هن ؟
قال : "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي([3]) يوم الزحف([4]) وقذف([5]) المحصنات([6]) المؤمنات الغافلات([7])"([8]).
وأما حكم الساحر فإنه يختلف من ساحر لآخر على تقسيمات ثلاثة:
الأول: إن ادَّعى الساحر أنه يعلم الغيب أو أنه يضر من يشاء من دون الله وينفع من يشاء فهذا كافر لأن علم الغيب من علم الله ومن ادعى معرفته فقد ادعى حق المشاركة فيما يختص بالله عز وجل وهذا شرك بلا نزاع لقوله تعالى : " قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ([9]) أَيَّانَ([10]) يُبْعَثُونَ "([11])، ولأن الضر والنفع بيد الله سبحانه، وادعاء ذلك كفرٌ أيضًا، قال تعالى : " وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ "([12]).
الثاني : إن كان الساحر لا يدَّعي علم الغيب ولا هو وارد في أفعاله التي يَسحر بها الخلق, وإنما يتسبب بواسطة سحره في إيذاء الغير فهذا الأمر متفاوت فإن أدَّى السحر إلى قتل المسحور فللوالي أو قاضي المسلمين قتل الساحر لأنه قتل نفسًا بغير حق وفي ذلك يقول تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ([13]) عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى "([14]).
وإن كان هذا السحر أدى بالمسحور إلى أن قتل غيره لزم على الساحر دفع الدية لأنه سبب لهذا القتل الخطأ لأن المسحور في حكم من لا يدرك بعض الأمور فهو في حقه خطأ والساحر ضامن وهنا يلزم القاضي الفصل فإن رأى دفع الدية مع تعزير الساحر فذاك, وإن رأى الدية مع القتل فذاك وإن رأى قتل الساحر فذاك كل هذا راجع إلى القاضي حسب المقام الذي يقتضيه الحال بعد النظر في الجناية وحجمها وضررها وإن كان السحر قد آذى الغير ولم يبلغ به حد الجناية فإن الساحر قد ارتكب جرمًا كبيرًا سيسأل عنه يوم القيامة ويلزمه التوبة بشروطها فإن كثر شره وفساده لزم والي المسلمين أن يحسم أمره بما يدفع المفسدة ويجلب المصلحة فيعرض عليه التوبة فإن تاب فبها ونعمت وإن أبى وكثر شره فهو مخير بين قتله وحجره على خلاف بين أهل العلم والظاهر حسم أمره حسب المصلحة والمفسدة فإن رأى قتله فعل وإن رأى حبسه وتعزيره فعل فإن الساحر لا خير فيه.
الثالث : إن كان الساحر يُعْرَف بتقربه للجن والمردة ويستغيث بهم كي يعينوه على سحره فهذا أيضًا كافر خارج عن ملة الإسلام لأنه أتى فعل بعض المشركين الجاهلين وما هم عليه من الاستغاثة بالجان والأصنام من دون الله وعلى هذا يتنزل قوله تعالى : " لَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ "([15]), ومتى تبين كفر الساحر لزم والي المسلمين أن يقيم فيه حد الردة إلا أن يتوب فإن تاب وصلحت توبته انتهى الأمر فإن أبى أو تخاذل عن ذلك يلزم قتله لأنه قد بدل دينه لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من بدل دينه فاقتلوه"([16]).
وأما العراف والكاهن فهما كافران لا محالة لأنهما يدَّعيان معرفة الغيب ومن ادعى معرفة الغيب فهو كافر خارج عن ملة الإسلام فإن تابا كانت التوبة تكفيرًا لهما وإلا لزم الوالي القيام بقتلهما
وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: " من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"([17]).
فالراجح فيه التفصيل فإن كان هذا الآتي إلى العرّاف أو الكاهن يعتقد صحة ما يقول الكهان وأن ما عليه الكهان من ادعاء الغيب حق فهذا كافر لكونه يعتقد عقيدتهم وهذا فيما إذا كان يعلم أن ذلك من الكفر، وحاله كحال من يقول : إن القانون الوضعي المخالف للشرع حق ويجوز تقديمه على شرع الله! فهذا يعتقد صحة ما عليه الكفار فلا فرق بينه وبين الكافر سوى أنه يصلي ويصوم وهم لا يصلون ولا يصومون فلا يُغتر بمثل هؤلاء وإلا فكيف تنفع الصلاة والصيام رجلًا يشهد الشهادتين وهو يعتقد أن الكفار وما هم عليه على حق معناه أنه معرض عن أحكام الشرع ومن أعرض عن الشرع معتقدًا أن غيره مثله أو أحسن منه فهو كافر بإجماع المسلمين .
أما إن كان الآتي إلى الكاهن على جهل ولا يعلم حرمة الإتيان وصدَّقه على جهل منه فهو معذور حتى تقام عليه الحجة بعلم لا يحتمل غيره فإن مات قبل قيام الحجة عليه فيحمل على أصحاب الفترة ويختبر يوم القيامة مع من يختبر ولا يكفر البتة([18]) وإن كان يعلم حرمة ذلك ولا يصدقهم وما يقولون وأتى إليهم فهذا كفر دون كفر فهو معصية كبرى يلزم التوبة فإن تاب كانت له سترًا من غضب الله وإن لم يتب ومات فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وكل كفر دون كفر فإنه يترتب عليه نقصان التوحيد ويكون صاحبه مستحقًا لعذاب الله إلا أن يغفر الله له لقوله تعالى : " إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ([19]) ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ "([20]). وبالله التوفيق .
المصدر كتاب المنتقى من فتاوى الشيخ الدكتور صادق بن محمد البيضاني رقم السؤال (2)
.................................................. ...
([1]) أبعدوا.
([2]) المهلكات جمع موبقة وهي الخصلة المهلكة أو المراد الكبيرة.
([3]) الإدبار من وجوه الكفار.
([4]) وقت ازدحام الطائفتين بغير عذر,الزحف: الجيش الدهم سمي به لكثرته وثقل حركته يرى كأنه يزحف زحفًا أي يدب دبيبًا.
([5]) الرمي البعيد استعير للشتم والعيب والبهتان.
([6]) بفتح الصاد المحفوظات من الزنا وبكسرها الحافظات فروجهن منه.
([7]) عن الفواحش وما قذفهن به فهو كناية عن البريئات.
([8]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الوصايا, باب قول الله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون(3/1017رقم2615)], ومسلم في صحيحه [كتاب الإيمان, باب بيان الكبائر وأكبرها(1/92 رقم89)] كلاهما من حديث أبي هريرة .
([9]) الشعور العلم أو مباديه.
([10]) وقت الشيء ويقارب معنى متى وأصله عند بعضهم أي أو إن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم.
([11]) سورة النمل, الآية (65).
([12]) سورة الأنعام, الآية (17).
([13]) فرض وأثبت.
([14]) سورة البقرة, الآية (178).
([15]) سورة البقرة, الآية (102).
([16]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم, باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم( 6/2537 رقم6524)] من حديث ابن عباس.
([17]) أخرجه أحمد في مسنده [مسند المكثرين من الصحابة, مسند أبي هريرة رضي الله عنه(2/429 رقم 9532)] بلفظ: "من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم-من حديث الحسن وأبي هريرة.
([18]) قطعًا(كليًا بلا شك ولا رجعة فيه) وجزمًا وحتمًا لا بد منه, وهمزتها همزة وصل قياسًا وقطع سماعًا.
([19]) غير.
([20]) سورة النساء, الآية (48). [/color]