الإفتاءُ وظيفةٌ من أكبر الوظائف العظيمة في الشرائع، فهي كالنيابة عن النبيِّ في تفعيل الأحكام الشرعية المتناسبة مع الأحوال، زماناً ومكاناً و أعياناً، و لا يكاد يبلُغها أحدٌ، إلا أحدٌ راسخَ القدمِ في الإحاطة بعلوم الشرع و العلوم الخادمة له. و هنا تكمن وظيفة المفتي في تفعيل الحكم الشرعي، لا في تمريره كما هو، وهذا ما يتناسب مع حكمة التشريع، و كونه مناسباً لكل زمان و مكان و حال.
أَوْلَى العلماء مقام الإفتاء عناية كبيرة، فحرروا مسائلَه و حققوا قضاياه، حتى استوعبوا أصولَه، و أحكموا قواعده، فلا يكاد يفلُت شيءٌ متعلِّقٌ به، و لا يكاد يغيب شيءٌ متصلٌ به.
حينما ندرُسُ أحكام الإفتاء، و نُمعنُ النظر بعُمق الرؤية نجد أن المفتي ابنَ وقته، متعايشاً مع الزمن الذي هو فيه، و ليس هو آلةً ناقلةً و حاكيةً ومكرِّرَةً لما قيل في غير زمنه. نرى هذا جلياً في تطور مذاهب الفقه الإسلامي، فهي مرَّت بمراحل ثلاث، كم هو مشهور، مرحلة المتقدمين، و مرحلة المتوسطين، و مرحلة المتأخرين، و كل مرحلة تميزت بشيء مختلف عن المراحل الأخرى، و هذه المراحل و إن كان المشهور عند مؤرخي الفقه أنها مراحل النمو، إلا أن هناك شيئاً آخرَ، رُبما أُدْرِكَ و رُبَّما لم يُدْرَكْ، وهو أنها تواكبت مع معطيات عصرها، فكل مرحلة جرى فيها تمحيصٌ و تهذيبٌ لقضايا الفقه الشرعي، حسْبما اقتضته الحال. هذه المراحل كان المفتي حاضراً فيها كما هو حال الزمان و المكان، و كذلك حال الأعيان، لذلك كان التحرير لكثير من مسائل و قضايا الفقه.
المراحل التنموية للمذاهب كانت واقعية، و لم تكن، كما عليه أكثر المفتين اليوم، مثالية، حيث الجمود على المنقول المسطور، دون إعمال لدور العقل في معالجة المنقول، و ليس إعمال العقل هنا في تقديمه التعطيلي للنقل، بل المقصود حضور العقل في توظيف و تفعيل النص الشرعي. ففي كل مرحلة كانت أصول المذهب حاضرة، و الاختلاف كان في التفعيل الفرعي لتلك الأصول، و القراءة الواقعية لها، ومن خلال التفعيل و القراءة نشأت مرحلة أخرى جديدة للمذهب الفقهي، هذه المرحلة جديدة و مجددة، جديدة في تفعيلها، و مجددة لدور التعايش الشرعي للأحوال الإنسانية.
في كل عصر تحدثُ أشياءُ تحتاج إلى متمكن في الفقه، عالم بأصول الدين و فقهه، يُحررها وفْقَ الأصول و القواعد المعتبَرة، و ليست بحاجة إلى من يستجلب من الماضي حكماً، أو يستحلبَ من العقول الماضية رأياً، يختلف زمانه و مكانه و حاله عن العصر الجديد.
إن دور المفتي يكمن دائماً في أن يضع الحكم الشرعي متناسباً مع الأحوال الطارئة، فيُكَيِّف الحكم بدون أن ينقُضَ أصله، من عدة مناحٍ؛ كالخروج من معتمَد رأيه إلى رأي آخر، و مراعاة المصالح و المفاسد، مع التقييد و الضبط، لا الفوضوية. هذه الحالة من المفتي توحي بأنه يعيش في زمانه عَيْشاً واضحاً، فلا يكاد يخفى عليه شيء من حاجات الناس، و تلك هي وظيفته في الإفتاء، لأنه يُمارسُ ما يحتاجه المجتمع حوله، و المفتي حينما يكون كذلك يكون أقرب إلى فهم حقائق الشرع، لكنه حينما يكون في معزل فإنه لا يفهم إلا ألفاظ الشرع لا حقائقه، و يكون عالماً صُورياً لا حقيقياً.
الجمود و البقاء، و كذلك الاتصال الكُلي، أصولاً و فروعاً، بالماضي من أقوى النقاط التي بسببها يسقط جوهر الإفتاء، فهي تُثبت أن هذا المفتي لا قُدرة له على أن يفهم زمانه، و لا أن يَدرِيَ حال الناس في وقته. و دراية المفتي و معرفته بما يدور في وقته أهم بكثير من درايته بما كان في الأزمان المنصرمة، لأنه يحمل وظيفة توظيف و تفعيل الحكم الشرعي في زمانه، كما هو حال أكثر المفتين، الذين أتقنوا الفقه الشرعي على أُسُسِه، ودرايته بما مضى لا تكون إلا كمفتاحٍ، و أقصد بما مضى من تفعيل للنص الشرعي، و لا أقصد به النص الشرعي، فتوظيف المفتين للنصوص الشرعية يكون محكوماً بما يكون في أوقاتهم، لذلك فالنص الشرعي يتواكب، غالباً، مع كل حال للإنسان.
حضور المفتي اجتماعيٌ أكثر من أي حضور، فهو ابن الشعب و لسانه، و ليس هو ابنٌ للسلطة أو غيرها. فتواصله مع المجتمع أكثر من تواصله مع الثقافة الشرعية ذاتها، لأن الفتوى متعلقة بالناس و الشعوب، لأنها تعالج قضايا الأعيان، و لهذا فالفتوى متعلقة أساساً بكل ما يخص أحوال الناس و معايشهم، من حيث العبادات و المعاملات، و ما سوى ذلك فهو حضور قليل، و قليلاً ما يُجدي نفعاً.
إن كثيراً ممن يتصدر الإفتاء اليوم نجد في فتاويهم انفصالا عن حاجيات المجتمع، و انفصالاً عن متطلبات الوقت، فهم يعيشون في غير أزمانهم، و يتكلمون بمثالية لا تُقبَل من مفتٍ يجب أن يكون حاضراً في كثير من أحوال الناس، حتى لو كان في الجزئيات.
في سَبْر كثير من الفتاوي نجد شيئاً كثيراً من هذا، فعقل المفتي فيها غائب عن الحضور الواقعي، و حاضر في الغائب المثالي، فيُتعجَّبُ من اهتراء الفتوى، حتى لو كانت متينة الأدلة، بسبب أنها غائبة الأثر، أو عديمة النفع، لعدم اتصالها بما لدى الناس. في حين أننا لو استعرضنا الكثير من الفتاوي التي لأعيان علماء المذاهب، لوجدنا أنها تتناسب مع أحوال الناس، وهذه من عُمق العقلية العلمية الدينية، و التي غابت كثيراً.
هذا الشيء يستدعي المفتي أن يكون متواصلاً مع العامة من الناس كثيراً، ليتعرَّف على أحوال الناس منهم هم لا من غيرهم، فالناقلون لأحوال العامة، ممن ليسوا منهم، دائماً ما يكون نقلُهم مثالياً، أو يَعمدون إلى تزييفٍ للمنقول، و لا ثقة بالناقلين غالباً. فيكون المفتي مستمعاً للعامة و ما لديهم، مستفصلاً عن أحوالهم كثيراً، منقِّبَاً عن أسباب متغيراتهم، حتى تكون فتياه إن خرجتْ رصينة متينة.
هذا جانب في عقل المفتي يجب أن يكون حاضراً، و هو اتصاله بمجتمعه و زمانه، و كذلك بالمكان، لا يُهوَّن من هذا الجانب، لأنه الجانب الأهم و الأمتَن، و بتهوينه يكون خلل كبيرٌ في صناعة الإفتاء.
جانب آخر، لا يقلُّ شأناً أبداً، وهو من الأهمية بمكان كبيرٍ جداً، وهو جانب التكوين المعرفي للمفتي، إن المفتي إنسان يتكوَّن عقله من عدة معارف، تقوم هذه المعارف بإدراك مقاصد الشرع، و بتوظيف حقائقه في حياة الناس، ليكون سيرُهم في حياتهم مبنياً على قانون الشرع و نظامه، و هذا الجانب، في الفقه ذاته، يحتاج إلى اهتمام بعدة علوم.
هذه المعارف و العلوم حضورها في تكوين المفتي حضوراً اساسياً، حضوراً يؤهله لأنْ يكون مفتياً، لا حضوراً لأنْ يكون عالماً فقط، لذلك شدَّد الأصوليون في هذه العلوم و حضورها في المفتي، حيث أدركوا أن الإفتاء لا تجوز فيه الفوضى.
لما غابت هذه الأشياء في الأزمان التي أُهملَ فيه الحضور الأصولي، و الاعتبار برأي الفقهاء المقاصديين، حضرتْ الفوضى في الإفتاء كثيراً، فكانت أكثر الفتاوي تحمل بين طيَّاتها هُزالاً علمياً معرفياً، و تحكي أن وراءها عقلاً لا يُدرك ما يكون حوله، و حين تهزُل الأصول تهزلُ كذلك الفروع، و الثمرةُ من شجرتها.
لم يُهيَّأْ للإفتاء أي أحد من الناس، في زمنِ الإجلال لمقام التوقيع عن الله تعالى في تفعيل أحكام شرعه، فلم يكن تهييئُ المفتي للإفتاء إلا بعد شهادة بمقدرته على إدراك أسرار و حقائق الشرع في زمنه، و على قدرته على فهم الناس و حاجاتهم. فقد نُقلَ عن مالك، إمام المذهب المالكي، أنه لم يُفْتِ إلا بعد أن شهِد له سبعون عالماً بأنه صالح للإفتاء. و اليوم نتساءل: هل المفتون المُرشِّحون للمفتين رُشِّحوا من مفتين أعلمَ منهم؟! الجواب قطعاً: لا. و حينما نُقارن بين مالك ومن أهَّلَه و رشَّحه للإفتاء سنجد أنهم أعلم منهم، و هنا يكمن الفرق بين مقام مالك و شيوخه و مقام المفتين اليوم و أقرانهم المُرشِّحِيْن لهم.
إذنْ فليست القضية تأهيل فقط، بل أعمق و أبعد من ذلك فيمن هو المُهيِّئ المُرشِّح. و ذلك يذهب بنا إلى معرفة أن المفتي لا بُد و أن يكون عالماً مُلِمَّا بالكثير من المعارف. تكلم عنها الأصوليون في أبواب الاجتهاد، و المجتهد مُفتٍ، كما المفتي شِبْه مجتهد.
في قراءة لعقل المفتي سنجد مفارقات كثيرة، بين المفتي الذي رُشِّحَ للإفتاء من قِبَلِ من هو أعلم منه، و هو متمكنٌ من المعارف الشرعية و المساعدة، و بين المفتي المُرشَّح للإفتاء من قبل المؤيِّد للرأي، وهو مُلمٌ بأصول المنهج المنتمي إليه. من تلك المفارقات أن المفتي الأصلي، المُعتبَر حقيقة عن العلماء نجد فتواه تحمل الكثير من القِيَم التي لا تتعارض مع الحكمة الشرعية، و أن المفتي الآخر، الجديد، لا شيءَ من ذلك فيها، فهي فتوى تحمل بين جوانبها انتصاراً للرأي و الحال، بل للمدرسة التي ينتمي إليها. لا نحتاج ذلك إلى أمثلة، فالتصنيفات التي بُلِيَ بها الدين و أهله كافية في إثبات ذلك، في عدة مجالات من أمور الدين، و الحياة أيضا.
هذا التقسيم للمفتين يدفعنا إلى ذكرٍ لتقسيم دقيق لعلماء الدين، وهو تقسيم له أهميته كثيراً، فعلماء الدين نوعان:
النوع الأول: علماء مقصديون. و هم العلماء الذين يسعون إلى تحقيق و تحصيل و توظيف مقاصد الدين في حياة الناس، فلا يجمدون على النص المنقول، سواءً نصاً شرعياً أو نصاً مذهبياً، و هذا النوع نجد في توجهاتهم الشرعية، الفقهية، حيويةً أكثر من غيرهم، فهم يُلامسون الناس كثيراً، و نجد فتاويهم فيها من اللين و الرقة و المرونة الكثير، ذلك لأنهم ينطلقون من توظيف المقاصد الشرعية، و يهتمون بالخلاف الفقهي بين علماء الدين، و الخلاف الفقهي مجالٌ رحْبٌ لأسرار المقاصد. و أيضاً نجد في فتاويهم الكثيرَ من معاني سماحة الشريعة، لأن المقاصد التي تحملها الشريعة فضفاضة، و لا يُدرك سَعتها إلا هؤلاء.
النوع الثاني: علماء مشهديون. و هم العلماء الذين يبْقَون على المشاهد و الصور و الأشكال، فهم يتصلون بالرمز و المرجعية التي يؤمنون بصحتها، فيُلبسِون رأي المنهج لباس الدين، و يلوونَ نصَّ الشرع ليخدم، بالقوة و العنوة، المبدأ الذي أسَّسَه منهجهم. و هؤلاء نجد فتاويهم على مرِّ الزمن هيَ هيَ، الآخِر ينقل عن السابق، و نجد أنهم يُعظمون الماضي كثيراً، ليس تعظيماً بمعناه الصحيح، و إنما لجوءٌ إليه كَبَرِّ أمانٍ تخوفاً من الخوض في المُستقبَل. و كذلك نجد في فتاويهم، و تصرفاتهم في الإفتاء، شدة لا تليق أبداً بمُفتٍ، و نجد فيها الفقهَ اليابسَ، الذي لم تُرَطِّبْه روح الشريعة، بخلاف النوع الأول الذي نجد في فتاويهم روح الدين الرَّطْبة. و أيضاً نجد في فتاويهم ظاهرة المنع و التحريم، لعدم استيعابهم النصوص ودرايتهم بالمقاصد، و أيضاً ضيقُ أُفُقهم الفقهي، فهم ليسوا على اطلاع كبير على الخلاف بين العلماء، و أيضاً نجدهم لا يعتبرون غيرهم ممن خالفهم، و نجدهم دائماً ممن يصحُّ عليهم نَعْتُ " يحسبون كلَّ صيحة عليهم "، فيُوجسون خِيفةً من كل رأي مُخالف لرأيهم، أو مناقشة لفتواهم. و أيضاً نرى في هؤلاء، إضافةً إلى هذه ألأخيرة، أنهم يُهاجمون من يشتغل بمراجعة و مناقشة فتاويهم، لجهلهم الكبير يعتقدون أنهم مخصوصون بالصواب، و الجاهل دائماً مُصيبٌ، في عين نفسه. و أيضاً يسلكون قواعد الاستباط و الحكم الضيِّقة، و التي لا تصنع أُفُقاً واسعاً من الفقه. وهذا النوع ليس إلا من أنواع الضرر على الدين، و لعلهم ممن قيل عنهم: إن بلاء الناس من ذوي الأنصاف، و ذكروا منهم أنصاف الدين، أي أنصاف الفقه.
هذان النوعان موجودان وجوداً كبيراً في مدرَسَتَيْ الفقه:
الأولى: المدرسة المذهبية. التي ينتسب أصحباها إلى المذاهب الأربعة، التي استقرَّ الاعتبار بها و بصحتها، لما صحَّ فيها من ثبوت أصولها و قواعدها و رجالها، و صارت حاضرة حضوراً تاريخياً اجتماعياً، و سياسيا.
الثانية: المدرسة الظاهرية. و هي المدرسة التي انشقَّت، في الأصل، عن المدرسة المذهبية، و أخذت تعتمد على ظاهر النصِّ، الشرعي طبعاً، و رفضت بعضاً مما ليس نصاً، كالقياس مثلاً.
ففي كلتَيْ المدرَسَتَيْن علماءُ مَشهدٍ و علماءُ مَقْصَد، فالمشهديون جامدون، ميِّتوا الشعور بما حولهم، و المقصديون متحركون، أحياء في شعورهم بالروح الشرعية الحيَّةِ في كل زمان و مكان.
إن عقل المفتي، المفتي المُعتبَر، هو أن يكون عقلاً مقصدياً، عقلاً متعايشاً مع المقاصد التي جاء بها الدين، دائراً دوماً مع الحِكَم التشريعية، لا أنْ يكون عقلاً صُورياً، يحكي و ينقلُ مشاهدَ كُرِّرَتْ، و مضى عليها زمن، لا تتواكب مع وقته و عصره، عقلاً يجب أن يكون مُدركاً للزمان و تغيراته، و المكان و متطلباته، و الإنسان و احتياجاته، فليس محكوماً إلا بالمقصد و الحكمة التشريعية، و ما النصوصُ إلا أوعية لمقاصد الأديان.
المفتي المقصدي، الذي ينطلق من مقاصد و حِكَم الشريعة هو المفتي الذي نحتاجه، و هو المفتي الذي به تنضبط المجتمعات، و هو المفتي الناطقُ بحكمة الله و رسله، و أما المفتي الآخر، المفتي الذي يجمُد على ما هو محرَّرٌ و مسطورٌ فقط، فهو الناطق بلسان من يسوسه، و بلسان من يحكُمه، مهما يكن ذلك، سواءً سُلطاناً حاكماً، أو منهجاً قائماً، أو حاجةً داعيةً، أو شخصاً مُعظَّماً، هذا المفتي لا حاجة للأديان إليه، لأنه مُفتٍ يُميتُ جوهر الدين، و كل مُفتينا من هذا النوع، و الأندرُ من كان من النوع الأول.
---موضوع مميز----