اختَرْتُ أربعة حوادث حصلت في السنة المنصرمة، والأخيرين لازالا يتفاعلان حتى الساعة:
- فيروس هجين يُشخَّص في بضع حالات في المكسيك، ليُسترهَبَ أهل الأرض كلهم – عمداً أو جهلا لا فرق فيما يخص موضوعنا -، ويُخوّفون من وباء قد يفتك بالملايين..الخ
أين الطب المتقدم؟
الأمصال غير جاهزة، واختبارها بعد إعدادها يتطلب خطوات لا يسعف بها الوقت، ولكن سنختصر هذه الخطوات " واللي يصير يصير "... أليست هذه أجواء الطب في القرن التاسع عشر؟!
لو تخوّفت – أيها الشرعي أو أيها المسلم – من مثل هذا قبل حدوثه بأيام أو ساعات، لقال لك المفتون المُستَلَب: ما هذا التخلف في التفكير؟! لقد تقدَّم الطِّبُ كثيرا، وأنت تظن أن التقدم الطبي يتحرك ببطء يشبه بطء تفكيرك أيها الشرعي الإسلامي...
- بركان يثور في أيسلندا ( للفائدة: هي ثاني أكبر جزيرة في أوروبا بعد بريطانيا، وتقع في المحيط شمال المملكة المتحدة،وغرب الدول الاسكندينافية، وهي بالمناسبة إحدى الدول الأكثر ثراء وتقدمًا في العالم، إذ في عام 2007، احتلت المرتبة الأولى بوصفها البلد الأكثر تطورا في العالم من قبل مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، وهي تعتبر رابع أكبر دولة من حيث مستوى دخل الفرد ) فيثور مع البركان كل ما يتعلق بالطيران شريان الاقتصاد الأهم – وبخاصة في شِقّه البشري -، فتتوقف حركة الطيران في غالب أوربا الغربية، نعم أوربا الغربية ذلك الإقليم الذي يضم أكبر تجمع لدول متقدمة في الكوكب، هذا مع العلم أن أقرب دولة أوربية إلى أيسلندا هي النرويج والتي يبعد برها عن الجزيرة حوالي 970كم !!
لو أن " إسلاميا مُنغلقاً" قدّم مثل هذا التصوّر لمُستلبٍ مفتونٍ ، وقال له ستُشلّ حركة الطيران في أوربا الغربية وستخسر الشركات والدول المليارات لأن بركانا ثار على بعد نحو ألف كيل عن طرف البر الأوربي لأن محركات الطائرات الحديثة جدا لا تستطيع مقاومة غبار بركان محدود ثار على بعد ألف كيل أو أكثر...لو قال ذلك ؛ لقال له المُستَلَبُ: أنت رجعي، أنت متأخر عن العالم، تريد أن تعيدنا إلى عصر النهضة الأوربية، لقد انتهى وأنت لا تعلم، نحن في القرن الحادي والعشرين..الخ.
- هل جرّبت أن تسدَّ فوّهة حدثت في أنبوب ريٍّ زراعي بينما الماء يتدفق منها بغزارة؟! ستدرك فوراً أن أفضل طريقة هي أن توقف مصدر تدفق الماء قبل أن تشرع في إصلاح الأنبوب. هذا الحادث اليسير الذي قد يحدث لك وأنت تروي مزروعات حديقة، هو الذي لا زال يحبس أنفاس العالم بعد أن أحدث أكبر تلوث بحري في تاريخ الولايات المتحدة، وربما العالم خلال أكثر من ثلاثين يوما ولا يزال... منصّة نفطية تتبع شركة بريتش بتروليوم (إحدى أكبر وأثرى الشركات النفطية والشركات عموما) حدث فيها انهيار جزئي، أدى إلى اندفاع النفط من الفوّهة المحفورة لاستخراجه على عمق نحو ميل تحت سطح المحيط.. ببساطة: شدة الاندفاع وعدم القدرة على إيقاف منبعه، مع وقوع الحادث في منطقة عميقة جدا أدّت هذه العوامل إلى أن تقف البشرية عاجزة وهي تشاهد النفط الأحمر المسودّ يلوث بحار وشواطئ عدة ولايات أمريكية، ويوقف مصادر دخل آلاف الأمريكيين، ويضر بمصالح الملايين، ويلوّث البيئة توليثا قد تمر سنوات طويلة جدا قبل تجاوز آثاره، يحدث هذا التلوث البحري بعد أن لوثت الحضارة المادية نفسها عقديا وأخلاقيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا، فاجتمعت فيها – ولو لحين – أنواع التلوث المضر، وأفسدوا البحر حسيا كما أفسدوا الجوّ، وهم قد أفسدوا ولوّثوا أمورا معنوية كثيرة.
لقد أدى هذا الحادث إلى أن سمعنا بحلول هندسية تذكرك بالقرن الثامن عشر أو حتى قبلَه: نضع قبة حديدية على الفوهة لتحجز تدفق النفط، نضع ترابا طينيا ليُخَفّفَ التدفق أو يوقفه قبل سده بالأسمنت..الخ.
مرة ثالثة لو قلت لأحدهم: قد يختلّ الوضع في منصة نفطية بحرية فتعجز الهندسة الحديثة المبهرة عن إيقاف اندفاع النفط؛ لقال لك وقال...
- في أوربا الغربية: اتحاد نقدي واقتصادي، وبرلمان اتحادي، وتكامل سياسي بنسبة كبيرة، يصحب كل ذلك تقدم هائل على عامة شعوب الأرض في أغلب المناحي المادية، وتدرّج وتؤدة، وإتباع سياسة المشي خطوة بخطوة نحو التكامل الاقتصادي والاتحاد النقدي (حتى أن بريطانيا لم تنضم للعملة بعد، وقد لا تفعل قريبا)... ما حدث – بكل بساطة – هو أن دولة اسمها اليونان اقترضت وأنفقت، فولدت دَينا وعجزاً ليس أكثر من الهامش المأذون فيه أوربيا فحسب، بل أكثر من قدرة اقتصادها على الالتزام سواء كان متحدا أم مستقلا... هذا الحَدّث كان بمثابة نواة كرة الثلج التي توشك أن تُكوِّرَ من حولها اقتصاديات هائلة أبرزها على الترتيب: البرتغال، ثم أسبانيا، ثم إيطاليا، ولن تنجو ألمانيا وفرنسا من الضرر آنئذٍ.
ألا يُذكّرنا هذا بما حدث – بنفس السهولة – قبل نحو عامين من أزمة للقطاع العقاري الأمريكي كانت نواة كرة الثلج فيها في غاية السطحية والسذاجة بادئ الرأي: مصارف ومؤسسات عقارية تملِّك بيوتا بمبالغ أكبر من قيمة البيت المرهون أصلا، فضلا عن قيمته عند أي هزة اقتصادية...تدور بعدها كرة الثلج المتضخمة لتنسف في طريقها أنصابَ الشفافية المصرفية، والملاءة المالية وغيرها، ولينفرط عقد المصارف الأمريكية وتبدأ في الانهيار والتلاشي بمعدل بضعة بنوك شهريا على مدى أكثر من سنة ونصف، ولتدفع البشرية كلها – وبخاصة الحَلَقة الأضعف – ثمنا هائلا للفجور الاقتصادي الأمريكي!
نعم! بهذه السهولة يا عَبَدَة الغرب أصبحنا ندرك أن "عبادة" التقدم المادي المذهل وأن الإلحاد التقني والمعرفي الذي لا يؤمن بدين ولا يراعي قِيماً هو ضلالٌ من الرأي، وباطلُ من الاعتقاد، ومنكرٌ من القول وزورٌ... إنها آيات كونية ناطقة بأننا وإن كُنّا اسْتُعْمِرنا في الأرض، وأُمِرنا بالسعي فيها، وأُبْلغنا بأن ما فيها مُسخّر لنا مِنّة من خالقنا وإلهنا سبحانه؛ فإن ذلك لا يعني أن نخضع للعلم انبهاراً ورغبة ورهبة. إن حالنا هذا يُشبه حال الإنسانية في كل عصر عندما تفقد مَددها الروحي الديني الشرعي، فتصبح تُقدِّمُ القرابين للجن والأشباح انبهارا وخوفا ورجاء، أو لطاغوت متحكّم،أو لمظهر طبيعي تخافه كمَدِّ البحر أو ثوران البركان.
خَتماً أقول: لنستمتع بخيرات الأرض مع الشكر، ولنتعاط مع التقنية المتقدمة، ولنشارك في صنع حضارة الكون، لكن دون أن نلحد، ودون أن ننبهر على نحو تطيش معه عقولنا عن أصغر أحكام شرعنا المطهّر كتمكين الظهر في الركوع، أو تجنب الشرك في دارج اللفظ، ومن لم يفطن إلى ذلك فقد جاءته الآيات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ)
د. محمد الناصر الغامدي
جامعة الدمّام
منقول من موقع لجينيات ,,,