بسم الله الرحمن الرحيم
الكثير يعتبرون الإنسان يتكون من رصيد معين من التجارب و المواقف
وهذه التجارب هي من تصقل شخصيته
تكونها و تشكلها
مع الأخذ بالإعتبار عوامل أخرى تساهم في تكوين الشخصية
التجارب و المواقف تعلم الإنسان أشياء جديده
وتفتح ذهنه على أمور كان يجهلها في السابق
تأتي وتذهب مواقف حلوها ومرها ولكن تظل بعضها عالقة في الذهن
وتشكل درساً لا يمكن أن ننساه
و قد كتبت هذا الموضوع رغبة مني في مشاركتكم واحدة من المواقف التي لن أنساها ما حييت .
و أنا متأكد أن كل واحد منا لديه بعض من التجارب و المواقف التي يرغب المرء بمشاركتها مع أعزائه
قبل عدة سنوات ، حزمنا حقائبنا لنسافر إلى إحدى الدول ، كم كنا متحمسين أنا و إخوتي فقد كنا نتحدث عن السفر طوال الفصل الدراسي الثاني . و جاء وقت السفر . ودعنا تراب الوطن من شباك الطائرة . كم كان المنظر معبراً و أنا أرى تلك الرمال الجميلة و المباني الصغيرة المتناثرة تبتعد عني رويداً رويداً . و الحقيقة هي أنني أنا من كنت أبتعد عنها محلقاً في الفضاء . ساعات طويلة ، مملة
يسودها صمت مطبق ، حيث أن الجميع غارقٌ في سباتٍ عميق .
بعد فترة ليست بالقصيرة، استيقظ أخي بفعل هزات يدي وأنا أعلمه بفرح أننا هبطنا، نزلنا من الطائرة و أنهينا اجراءات دخولنا لذلك البلد واستقلينا السيارة التي أخذتنا الى الفندق ، وفي تلك الأثناء نظرت الى وجوه الجميع التي امتزجت بالتعب و الفرح في آنٍ واحد.
بعد أيام معدودة قررنا زيارة قرية صغيرة معروفة بطبيعتها الخلابة . و كنا نسير بين البيوت الريفية و روائح الزهور تغلفها . لمحت رجلاً في الخمسينات من عمره يسير خلفنا أينما ذهبنا ، في وجهه علامات الألم و بقايا عمر الشباب . توقفنا أنا و إخوتي لنلعب الكرة في مسطح أخضر بديع . وماهي الا ثوانٍ حتى تقدم هذا الكهل بثيابه الرثة و قال لنا بلهجة سعودية خالصة : زمان على الكورة .
و أخذ يستطرد معنا سيرة أساطير كرة القدم في الخليج في السبعينات الميلادية . و استطرد يسألنا عن السعودية و كيف أصبحت و كيف هي الحياة فيها هذه الأيام !!
تمعنت في الرجل لوهلة
و إذا بملامح عربية خالصة
ملامحٌ تدل على أنه من أهل الجزيرة العربية
ولهجة سعودية خالصة !!!!
سألته : أنت سعودي ؟
رد علي بنبرة يكتنفها حزن دفين : كنت سعودي !!!
تعجبت فلأول مرة أسمع هذه الإجابة . و بدون أن أسأله استطرد بالحديث . وذكر بأنها ليست أول مرة يرى فيها علامات الحيرة و التعجب على محيا أبناء جلدته . إنه يراهم سائحين كل عام و يسرد لهم قصته حتى لا يقع الشباب في هذا الفخ ، ولا يمروا بنفس ما مر به من ألم و حسرة .
قصته أيها الأعزاء أنه أتى لهذه الدولة في مطلع الثمانينات الميلادية . مودعاً والديه الذين بنوا عليه آمالا كبيرة . جاء مبتعثاً من قبل جهة حكومية ليكمل دورة مقررة عليه . وصل و طابت له الإقامة . وبدء بالتسيب و عدم الإنضباط في حضور دورته . غرته الحياة ومباهجها فأصبح أسيراً لها، لا يفارقها، لا يتركها حتى وهي تكلفه الغالي و النفيس ، تكلفه ماله ووقته و مستقبله الذي أصبح سراباً بعد حين، فشل في اكمال دورته و رفض الرجوع ، كيف يعود و قد أصبحت حياته رهينة للدمار ، أصبح يبحث عن طرق تبقيه في هذا البلد بطريقة نظامية ، تزوج بفتاة كان يعرفها ، عاش معها سنوات معدودة ، حصل فيها على جواز سفر ذلك البلد ، ولكن بعد فترة معينة طلقته زوجته في المحكمة و استولت على ما أدخره من مال . و الأهم من ذلك أنها نجحت في الحصول على حضانة ابنته التي انجباها. بدأت حياته بالتدهور بعد ذلك فالمحكمة لم تسمح له بتربية ابنته أو حتى تربيتها ، و الآن أصبح يعيش على الأعمال الوقتية حتى يطعم نفسه كتنظيف الشوارع أو المشاركة في أعمال البناء مع أصدقاءه أبناء الجالية العربية ، يحكي هذا الرجل بحرقة و ألم كيف أنه الآن يرى ابنته المراهقة تسير بدون حتى أن تنظر اليه ، وكيف أنه حتى لا يستطيع منعها من ارتداء ملابس معينة . يستطرد بألم كيف فارق والده الحياة غاضباً عليه و أمه تدعي عليه الى يوم الدين .
وهو خجل حتى من الرجوع أو مواجهة أهله الغاضبين عليه .
عدنا من تلك الرحلة وأنا يكتنفني الذهول و الأسى
فعلاً من طلع من داره قل مقداره
و أنا الآن مغترب للدراسة و لكن هذه القصة ستبقى في ذاكرتي مهما حييت
و كم أنا متطلع للعودة لبلدي الحبيب
عذراً على الإطالة
فيصل محمد السديري