السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تتحدث كتب النفس وبرامج الاستشارات التلفزيونية والنصائح الطبية
ونحوها عن مشكلة يسمونها (مشكلة السهر) .. ويطرحون لها الحلول
والعلاجات ويتكلمون عن أضرارها، لكن ثمة نوع آخر من السهر لا أرى
له ذكراً بينهم .. إنه سهر من نوع خاص .. سهر يذكره القرآن ويتحدث عنه كثيرا
.. وكلما مررت بتلك الآيات التي تتحدث عن هذا السهر شعرت بالخجل من نفسي..
في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهوال يوم القيامة توقف السياق
ثم بدأت الآيات تلوِّح بذكر فريقٍ حصد السعادة الأبدية واستطاع الوصول
إلى (جناتٍ وعيون) .. ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادة
بين مجاهل تلك الأهوال؟ إنه (السهر المجهول) .. تأمل كيف تشرح الآيات
سبب وصول ذلك الفريق إلى الجنات والعيون:
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)[الذاريات،16-17].
أرأيت .. استحوذ عليك المشهد؟ لا عليك، شعورٌ طبيعي جداً..
تأمل كيف كان سبب سعادتهم أن نومهم بالليل "قليل"!
إذن أين يذهب بقية ليلهم؟ يذهب بالسهر مع الله جل وعلا ..
ذلك السهر المجهول.. ذكرٌ لله، وتضرعٌ وابتهالٌ بين يديه، وتعظيمٌ
له سبحانه، وافتقارٌ أمام غناه المطلق سبحانه، وركوعٌ وسجودٌ
وقنوت .. هذا غالب الليل.. أما القليل منه فيذهب للنوم..
القليل فقط بنص الآية (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون)..
وفي سورة الزمر لما ذكر الله عدداً من الآيات الكونية عرض هذا
السهر الإيماني بصيغة أخرى، لكن فيها من التشريف ما تتضعضع
له النفوس .. لقد جعل الله هذا السهر الإيماني أحد معايير (العلم)،
نعم.. قيام الليل أحد معايير العلم بنص القرآن، وهذا أمر لا تستطيع
بتاتاً أن تستوعبه العقول المادية والمستغربة لأنها لم تتزكّ بعد بشكل
تام وتتخلص من رواسب الجاهلية الغربية، لاحظ كيف دلت
خاتمة الآية على التشريف العلمي لهذا السهر الإيماني، يقول تعالى:
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر، 9]
فلاحظ في هذه الخاتمة كيف جعل الله من لم يقنت آناء الليل فهذا
مؤشر على جهله، ومن قنت آناء الليل فهذا مؤشر على علمه.
. وقد يقول قائل .. لكن كثيراً ممن لا يقنت آناء الليل نرى بالمقاييس
المادية المباشرة أن لديه علماً؟ فالجواب أن القرآن اعتبر العلم
بثمرته لا بآلته، وثمرة العلم العبودية لله، فمن ضيع الثمرة لم تنفعه الآلة..
وفي أواسط سورة السجدة ذكر الله المؤشرات الظاهرة التي
تدل على إيمان الباطن، حيث استفتحها بقوله (إنما يؤمن بآياتنا.. الآية)
وفي ثنايا تلك المؤشرات صورت الآيات مشهد ذلك
المؤمن الصادق، وهو في فراشه، تهاجمه ذكرى الآخرة فلا
يستطيع جنبه أن يسترخي للنوم.. تأمل قوله تعالى:
(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة: 16].
[صورة رجل يصلي]
اللهم يارب الليل البهيم .. اجلعنا من تتجافى جنوبهم
عن المضاجع ندعوك خوفاً وطمعا.. (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)