ملك عبدالعزيز.. شخصية تاريخية تختلف فكراً وأداءً عن غيرها من التشتت القبلي وغياب التعليم إلى التأهيل العلمي والحضاري في ظل الدولة
بقلم: تركي بن عبدالله السديري
أليس غريباً أن نقول بأن هناك من مواطنينا من هم أقل عمقاً في فهم أبعاد شخصية الملك عبدالعزيز - رحمه الله - القيادية.. وربما الأصح أن نقول عن ركود المفاهيم الاجتماعية والتفافها حول ما هو مألوف هو الذي غيّب إدراك جزالة الأبعاد التاريخية في تكوينه القيادي المتميز، بل والفريد في عصره.. ولعل مناهج التعليم التقليدية القديمة تتحمل جزءاً من هذه المسؤولية..
ما أكتبه هنا هو استقصاء لطرح تعدّدات التفوق القيادي في شخصيته وليس تناولاً تقليدياً..
لو أن الملك عبدالعزيز تواجدت بداياته القيادية في عصر الاستقلال العربي ووضع في مقارنة مع الثورية الناصرية التي انتهت معنوياً بعد حرب 67 وكانت قد مهّدت لذلك بتهديم قوى الاقتصاد المحلي.. أو الثورية العراقية عندما بدأت عمليات القتل الجماعي الطائش دون أن يفهم أحد ما هو المطلوب.. أو عاصر تلك السلوكيات المضحكة ليسار جنوب اليمن «عدن» عندما أوقف وزير الدفاع دفع الماء عن شلال مدخل دائرة حكومية قائلاً: كيف يرتوي النبات والمواطن يحتاج الماء.. أو معجزة فخر الجزائر بالمليون شهيد ثم بعد ذلك توفر ما يقارب المليون مغتال، وحيث تختلط الأمور بصراع الشعارات لن يكون من السهل تمييز انفراداته عبر مقارنات غير موضوعية ولا عادلة.. لكن سيتم إدراك الفوارق الجوهرية عند مقارنة النتائج..
الملك عبدالعزيز خرج كرجل قيادي في ظل أصعب ظروف عربية وأخطر تواجد غربي في العالم عموماً والأرض العربية بخصوصية أكثر، وكانت أمامه مهمات بالغة التناقض والصعوبة.. توحيد تعدد الفئات المتحاربة تاريخياً وتقليدياً منذ العصر الجاهلي، وتجاهل الحكام المسلمون، أمويين في الشام وعباسيين في بغداد، لها كهامش خارج مسؤوليات الحكم.. بغض النظر أن هذه القبيلة مسلمة وكذا تلك، لذا فهما خارج الإطار الجاهلي.. هذا غير صحيح، فالأمر لا يتعلق بالعقيدة فقط ولكن أيضاً يتعلق بسلوكيات التعامل..
كانت فروسيات «الغزو» مهمة قبلية لا «وطنية» ضد جانب آخر، ومثلما يحدث من عدوانيات تعامل في الشمال يوجد ذلك غرباً أو وسطاً أو جنوباً..
وفي قراءة أي بحث تاريخي عن حياة الجزيرة العربية منذ ما قبل العصر الجاهلي ثم أثناءه ثم توالي إهمال دمشق وبغداد لمساحاته الصحراوية سوف نجد أن الظروف المعيشية والامتدادات المزعجة والمتعبة لمسافات الصحاري، ثم وهو الأهم عدم وجود شمولية سلطة تفرض سلام التعامل.. يضاف إلى ذلك إرثية العداوات التي تسمى فروسيات.. هذه التناقضات الكبيرة وهاجس الخوف المتبادل فعله ووضوح عدم الثقة في يقين تبادل التعامل لم يكن من السهل معها أن توجد دولة تملك استمرارية الاستمرار، ولا يرتبط توحدها بالسطوة الشخصية لقائدها حيث ينحسر هذا التوحد عندما ينحسر زمن القيادة الفردي..
ولعل مسألة عدم الاستقرار واضحة في أكثر من مدينة داخل الجزيرة حاولت شمول التواجد ولكن كان ذلك يحدث لزمن محدود..
نأتي إلى مقارنة أخرى صارخة البرهان في وضوح فروق النتائج ونوعياتها بين ما هو أمام عيوننا وعقولنا في بلادنا وفروقها الهائلة عند غيرنا الذين أجهضت مسارَ تقدمهم سلبيات الثوريات المتعددة في أكثر من مكان.. كما أوضحت سابقاً..
لنأخذ ميزة كبرى في بلاد الثوريات العربية عند استعراضنا لحالات المقارنة والتميز الذهني والتاريخي للملك عبدالعزيز؛ فتلك الدول عرفت التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته بما في ذلك التعليم الجامعي، وعرفت النظام البرلماني، وتعدّدت فيها مصادر تطوير الاقتصاد المحلي وبرزت فيها شخصيات ذات حضور دولي.. أهم شيء كانت تكوينات اجتماعية تدار عن طريق دولة وكانت مقصد طالبي المعرفة وتعدّد الثقافة العربية.. ونطبق ذلك بدءاً من الحدود الشرقية للعراق وحتى الحدود الغربية للجزائر.. والذي فعله هؤلاء هو انتكاس مسارات الدول والبحث عن بدايات نمو جديدة..
واقع الملك عبدالعزيز - وهذا أول رمز وشاهد على جزالة عبقريته القيادية - أنه واجه أوضاعاً مختلفة تماماً فهو لم يأت إلى مستويات تعليمية كي ينوّع تطورها، ولا إلى امتدادات اقتصادية كي يبارك إيراداتها، وليس من السهل أن ينام مطمئناً كرجل دولة أول لأنه في حماية جيش مدرب وأجهزة أمن متنوعة المسؤوليات..
لا شيء من ذلك إطلاقاً.. وهنا بدايات الصعوبة.. وشواهد واقع الحياة الاجتماعية.. لم يكن هناك دولة، ولم تكن هناك وحدة اجتماعية حتى يمكن أن يكون الجزء بعضاً من الكل.. كان الجزء هو الاستقلالية القبلية التي تربّت تاريخياً على أن من حقها امتلاك السلاح وتوفير مصادر عيشها من أغنام الآخرين أو جمالهم..
من هنا أتت معجزات الملك عبدالعزيز وشمول جوهرية اختلافه عن أي قياديين آخرين في العالم العربي..
عبدالعزيز هو الذي وضع أساسيات الدولة، هو الذي فتح المدارس الابتدائية، وهو الذي شرع في توطين البادية وتسمية مواقعها بالهجرات.. وفي كل هجرة توجد أكثر من مدرسة تعليم، وبدأ ينشر مفهوم الدولة من خلال ما يعطيه الالتفاف الاجتماعي من معرفة لما تعنيه المواطنة في خصوصية دولة لها حق استقلاليتها عن أوضاع الآخرين وعدم التدخل في السلبيات أو الإيجابيات عندهم، فما تبيحه القبيلة لاحتياجاتها لا تقبله الدولة بطبيعة علاقاتها والتزاماتها..
كانت الحروب مع الغير «جهاد» مصالح.. وفي الداخل وسائل معيشة
هذه فضيلة كبرى بل تأسيس لدولة هي الأهم في وجودها من حيث تعاملاتها الدولية وحضورها العربي إذا ما عرفنا كيف كانت تصحّراً مهملاً في العصرين الأموي والعباسي..
هناك حقيقة كبرى، ومن المهم جداً أن ندركها جيداً خصوصاً في هذه المرحلة من تاريخنا، وهي أن الملك عبدالعزيز لم يبتعد عن الثقافة وأجواء الدبلوماسية الشرق أوسطية على الأقل ثم العالمية لأنه أحاط نفسه بعدد من المثقفين العرب متعددي الجنسية وذوي اطلاع على حقائق الأوضاع السياسية والاقتصادية.. وبالتالي هو لم يقبل أن يكون صاحب مذهبية دينية خاصة أو أن تجد لديه نوازع المذهبيات المنغلقة مواقعَ تأييد أو على الأقل صمتاً إزاء تجاوزاتها، فعبدالعزيز - رحمه الله - أول ما رفضه من المفاهيم الدخيلة هو تحريك الغزو من أجل الكسب المادي على أنه «جهاد».. وإذا كان العباسيون قد استفادوا مالياً من هذا المفهوم فإن الإسلام له ضوابط أخلاقية وإنسانية في ذلك.. هذه ناحية.. الأمر الآخر.. كيف وأنت ترأس دولة يُفترض أن تلتزم بالقوانين الدولية تقبل أن تهاجم قبيلة عندك غرب العراق وتسلب ما يمكنها أن تكسبه ثم تؤول هروباً إلى أرضك متباهية أنها قامت بعملية جهاد، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا متواجدة في العراق ولها نفوذ أكبر من نفوذ أمريكا اليوم، والسلاح بيد جندي واحد قادر على إفناء قبيلة كاملة..
إن الحس الفردي الذي يحرّك توجّهات الغزو لا يقيم أهمية لمصلحة الدولة، في حين أن الدولة من أولى مسؤولياتها ترويض وتطوير القبيلة والتأكيد عملياً على وجودها في عضوية الدولة..
ندرك جيداً أبعاد مخاطر الجهل الفقهي من ناحية والوطني من ناحية أخرى، وكلاهما مؤثر قوي في وحدة المجتمع من جهة وفي شمولية رعاية الدولة من جهة أخرى، لو توفّرا لكان ذلك هو المستحيل الصعب داخل امتدادات صحراوية خالية من أي مدرسة ابتدائية..
إن الملك عبدالعزيز لم تكن مهمّته الأولى أن ينصّب نفسه ملكاً، ولا أن يدّعي أنه آت بإسلام خاص، لأن إيجابيات حضوره الوطنية ثم زعامته للدولة قد عادت بمكاسب هائلة للمجتمع، هو الذي سعى إلى فئات هذا المجتمع المختلفة بشتى وسائل التوعية والتوضيح.. عندما اختلف مثلاً مع بعض زعامات البادية ووجد نفسه مضطراً للدخول في حرب حاسمة فإنه اختلف عن أي قيادات أخرى.. قديمة أو حديثة.. حيث لم يعمل على إفناء مَنْ لهم صلات قرابة مع مَنْ تمّت الحرب معهم، فالذي فعله - وهذا موثّق تاريخياً - أنه وضع أبناء مَنْ مارسوا التمرّد ضد سلطة الدولة في مواقع قيادية مرموقة..
أيضاً الرجل النادر في مفاهيمه لم يعزله ترف خاص عن طبيعة حياة المجتمع.. وفي الملحق الخاص عن هذه المناسبة مع عدد اليوم هناك رسالة موجّهة إليه من إحدى زوجاته ووالدة أحد أبنائه الكبار وفيها توضح صعوبة المعيشة داخل بيتها لقلة ما هو متاح من وسائل المعيشة البسيطة جداً جداً.. الملحق «ص26».. وقد روى لي مصدر موثوق أن الملك عبدالعزيز بلغه أن أقرب أبناء أسرته إليه عائلياً وله مكانة اجتماعية مرموقة كان يذهب إلى سوق بيع الإبل إذا تم بيع معروضات جديدة، وهذا لا يحدث باستمرار، فيشتري ما يعجبه، وهذا نظامياً وشرعياً تصرف غير مرفوض، لكن بعد النظر عند الملك عبدالعزيز جعله يستدعيه ويقول له ما معناه: لا مانع أن تشتري لكن لا تذهب بنفسك، فالناس لن يزايدوا على ما تدفع.. ابعث مَنْ يمثلك هناك دون أن يعرف الناس ذلك ودعه يشترِ لك ما تريد..
وهناك كتاب توثيقي أصدره الأستاذ إبراهيم بن حمد بن محمد آل الشيخ بمناسبة زيارة الأمير سلمان لمحافظة ثادق والمحمل، وهو يحوي رسائل شخصية وبخط اليد متبادلة بين الملك عبدالعزيز وبعض الشخصيات الوجيهة في عدد من المدن، ويتضح في لغة الرسائل صعوبة المعيشة وانتشار ظاهرة «السلف» أي الدَّيْن، وأهم من كل ذلك أنك تلمس في الرسائل الاحتوائية الأسرية لمصداقية المشاعر، وفي الوقت نفسه تقارب مستويات المعيشة بين الحاكم والمحكوم..
في الملحق الخاص باليوم الوطني نجد أيضاً رسالة موجهة من الملك عبدالعزيز إلى سكان منطقة معينة معروفة بتوسع تواجدها السكاني، وفي الرسالة يرفض التطرف ويوضح منهجية الإسلام في وجود التسامح. وفيما يلي جزء من النص: «وقد بلغنا عن أناس يدّعون أنهم على طريقة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أموراً مخالفة لما هو عليه وهي أنهم يتجاسرون على الإفتاء بغير علم ويطلقون التكفير والتضليل بغير علم بل بالجهل ومخالفة الدليل ويتناولون النصوص على غير تأويلها ويسعون في تفريق كلمة المسلمين ويتكلمون في حق مَنْ لم يساعفهم على ذلك من علماء المسلمين بما لا يليق»..
في كل ما سبق نحن أمام شواهد أن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لم يغتصب سلطة بشعار ثوري، ولكنه - وبإعجاز مذهل - جمع التشتت القبلي وتباعد المساحات القاحلة واتجه إلى فتح المدرسة وصدّ جنوحات التطرف فأقام الدولة..