هذه أبيات غزل للشاعر / قيس بن ذريح بن سنة بن حذافة العتواري الليثي البكري الكناني في محبوبته لبنى بنت الحباب الخزاعية :
وإني لمفن دمع عيني بالبكى ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها ... بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي ... وأقررت عين الشامت المتملق
وددت وبيت اللّه أني عصيتم ... وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوص البحر والبحر زاخر ... أبيت على اثباج موج مفرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها ... عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر ... ويكره سمعي بعدها كل منطق
لقد نادى الغراب ببين لبنى ... فطار القلب من حذر الغراب
وقال غداً تباعد دار لبنى ... وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت تعست ويحك من غراب ... وكان الدهر سعيك في تباب
وما أحببت أرضكم ولكن ... أقبل أثر من وطىء الترابا
لقد لاقيت من كلف بلبنى ... بلاء ما أسيغ له الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى ... عييت فلا أطيق له جوابا
بت والهم يا لبينى ضجيعي ... وجرت مذ نأيت عني دموعي
وتنفست إذ ذكرتك حتى ... زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
يا لبينى فدتك نفسي وأهلي ... هل لدهر مضى لنا من رجوع
قد قلت للقلب لا لبناك فاعترف ... قضلت لبانة ما قضيت فانصرف
قد كنت أحلف جهدي لا أفارقها ... أُف لكثرة زيف القيل والحلف
حتى تكنفني الواشون فافتلتت ... لا تأمنن أبداً من غش مكتنف
هيهات هيهات قد أمست مجاورة ... أهل العقيق وأمسينا على سرف
حيّ يمانون والبطحاء منزلها ... هذا لعمرك شكل غير مؤتلف
يقر لعيني قربها ويزيدني ... بها عجباً من كان عندي يعيبها
وكم قائل قد قال تب فعصيته ... وتلك لعمري توبة لا أتوبها
فيا نفس صبر الست واللّه فاعلمي ... بأول نفس غاب عنها حبيبها
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لفارقتها في حبها فقضيت
برت نبلها للصيد لبنى عشية ... ورشت بأخرى مثلها وبريت
فلما رمتني أقصدتني بلبلها ... وأخطأتهم بالسهم حين رميت
وفارقت لبنى ضلة فكأنني ... قرنت إلى العيوق ثم هويت
فيا ليت إني مت قبل فراقها ... وهل يرجعن قول المفرط ليت
فوطن لنفسي منك هلكاً فإنني ... كأنك بي قد يا ذريح قضيت
فيا ليت إني مت قبل فراقها ... وهل ينفعن بعد التفرق ليت
فإن يك تهيامي بلبنى غواية ... فقد يا ذريح بن الحباب غويت
عند قيس من حب لبنى ولبنى ... داء قيس والحب صعب شديد
فإذا عادني العوائد يوماً ... قالت العين لا أرى من أريد
ليت لبنى تعودني ثم أقضي ... أنها لا تعود فيمن يعود
ويح قيس لقد تضمن منها ... داء خبل فالقلب منه عميد
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... وليس إذا متنا بمنفصم العقد
فزاد كما زدنا وأصبح نامياً ... وليس إذا متنا بمنصم المهد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرتي في ظلمة القبر واللحد
إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثل ما ... على ألف شهر فضلت ليلة القدر
إذا ما شئت شبراً من الأرض أرجفت ... من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت ... ومتن كغصن البان منضمر الخصر
لقد خفت أن لا تقنع النفس بعدها ... بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وازجر عنها النفس إن حيل دونها ... وتأبى إليها النفس إلا تطلعا
لبينى زوجها أصبح ... لا حر يوازيه
له فضل على الناس ... وقد باتت تناجيه
وقيس ميت حقاً ... صريع في بواكيه
فلا يبعده اللّه ... وبعداً لنواعيه
إلى اللّه أشكوا فقد لبنى كما شكا ... إلى اللّه بعد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فجسمه ... نحيل وعهد الوالدين قديم
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عينيّ من دائم البكا ... ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
إلى اللّه أشكو ما ألاقي من الهوى ... ومن كرب تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشا ... وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين غزيرة ... بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوى ... يا نعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة بظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
وإن تك لبنى قد أتى دون قربها ... حجاب منيع ما إليه سبيل
فإن نسيم الجو يجمع بيننا ... ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا بالليل في الحين تلتقي ... ونعلم أنا بالنهار نقيل
وتجمعنا الأرض القرار وفوقنا ... سماء نرى فيها النجوم تجول
إلى أن يعود الدهر سلما وتنقضي ... ترات يرها عندنا وذحول
إذا طلعت شمس النهار فسلمي ... فإني يسليني عليك طلوعها
بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت ... وعشر إذا اصفرت وحان رجوعها
ولو أبلغتها جارة قولي أسلمي ... طوت حزناً وارفض منها دموعها
ألبنى لقد جلت عليك مصيبتي ... غداة غد إذ حل ما أتوقع
تمنيني نيلاً وتلويني به ... فنفسي شوقاً كل يوم تقطع
ألومك في شأني وأنت مليمة ... لعمري وأجفى للمحب وأقطع
وأخبرت أني فيك مت بحسرة ... فما فاض من عينيك للوجد مدمع
إذا أنت لم تبكي عليّ جنازة ... لديك فلا تبكي غداً حين أرفع
أمانيه لبنى ولم يقطع المدى ... بوصل ولا هجر فبيأس طامع
أبى اللّه أن يلقي الرشاد متيم ... ألا كل شيء حمّ لا شك واقع
هما برحابي معولين كلاهما ... فؤاد وعين ماقها الدهر دامع
إذا نحن أفنينا البكاء عشية ... فموعدنا قرن من الشمس طالع
تكذبني بالودّ لبنى وليتها ... تكلف مني مثله فتذوق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني ... لكم والهدايا المشعرات صديق
تتوق إليك النفس ثم أردّها ... حياء ومثلي بالحياء حقيق
إذ ود سوام النفس عنك وماله ... على أحد إلا عليك طريق
شهدت على نفسي بأنك غادة ... رداح وإن الوجه منك عتيق
وأنك لا تجزين مني صحابة ... ولا أنا للهجران منك أطيق
وإنك قسمت الفؤاد فنصفه ... رهين ونصف في الحبال وثيق
كأن الهوى بين الحيازيم والحشا ... وبين التراقي واللهاة حريق
فإن كنت لما تعلمي العلم فاسألي ... وبعض لبعض في الفعال يفوق
سلى هل قلاني من خليل صحبته ... وهل ذمّ رحلي في الرفاق رفيق
وهل يجتوي القوم الركام صحابتي ... إذا اغبرّ محشيّ المعجاج عميق
واكتم أسرار الهوى فأميتها ... إذا باح مزاح بهن يروق
هل الصبر إلا أن أصدّ فلا أرى ... بأرضك إلا أن يكون طريق
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون وأظهر
كأني في أرجوحة بين أحبل ... إذا فكرة منها على القلب تخطر
جزى الرحمن أفضل ما يجازى ... على الاحسان خيراً من صديق
فقد جربت إخواني جميعاً ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأى حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي
ماتت لبينى فموتها موتي ... هل ينفعن حسرة على الفوت
إني سأبكي بكاء مكتئب ... قضى حياة وجداً على ميت
وفي عروة العذري إن مت أسوة ... وعمرو بن عجلات الذي قتلت هند
وبي مثل ما قد نابه غير أنني ... إلى أجل لم يأتني وقته بعد
وفيض دموع العين بالليل كلما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو
لقد عنيتني يا حب لبنى ... فقع إما بموت أو حياة
فإن الموت أيسر من حياة ... منغصة لها طعم الشتات
وقال الآمرون تعز عنها ... فقلت ولا إذا حانت وفاتي
ما وجدت وجدي بها أم واحد ... ولا وجد النهدي وجدي على هند
ولا وجد العذري عروة في الهوى ... كوجدي ولا من كان قبلي ولا بعدي
لو أن امرأ أخفي الهوى عن ضميره ... لمت ولم يعلم بذاك ضمير
ولكن سألقي اللّه والنفس لم تبح ... بسرّك والمستخبرون كثير
عفا سرف من أهله فشوارع ... فجنبا أريك فالبلاد الدواقع
فمكة فالأخياف أخياف طيبة ... بها من لبينى مخرف فمرابع
لعلّ لبينى أن يحم لقاؤها ... ببعض بلادي إن ما حم واقع
بجذع من الوادي خلا عن أنيسه ... عفا وتخطته العيون الجوازع
ولما بدا منها الفراق كما بدا ... بظهر الصفا الصلد الشقوق الشوائع
تمنيت أن تلقي لبيناك والمنى ... تعاصيك أحياناً وحيناً تطاوع
وما من حبيب وامق لحبيبه ... ولاذى هوى الإله الدهر فاجع
وطار غراب البين وانشقت العصا ... لبين كما شق الأديم الصواقع
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
وأنك لو أبلغتها قيلي اسلمي ... طوت حزناً وارفض منها المدامع
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت كآت غيه وهو طائع
فلا تبكين في اثر شيء ندامة ... إذا نزعته عن يديك النوازع
فليس لأمر حاول اللّه جمعه ... مشت ولا ما فرّق اللّه جامع
كأنك لم تقنع إذا لم تلاقها ... وإن تلقها فالقلب راض وقانع
فيا قلب خبرني إذا شطت النوى ... بلبنى وصدت عنك ما أنت صانع
أتصبر للبين المشت مع الجوى ... أم أنت امرؤ ناسي الحياة فجازع
فما أنا إن بانت سليمى بهاجع ... إذا ما استقلت بالنيام المضاجع
وكيف ينام المرء مستشعر الجوى ... ضجيع الأسى فيه نكاس روادع
فلا خير في الدنيا إذا لم تزورنا ... لبينى ولم يجمع لنا الشمل جامع
أليست لبينى تحت سقف يكنها ... وإياي هذا إن نأت لي نافع
ويلبسنا الليل البهيم إذا دجا ... ونبصر ضوء الصبح والفجر ساطع
تطأ تحت رجليها بساطاً وبعضه ... أطأه برجلي ليس يطويه مانع
وافرح أن تمسي بخير وإن يكن ... بها الحدث العادي ترعني الروائع
كأنك بدع لم تر الناس قبلها ... ولن يطلعنك الدهر فيمن يطالع
وقد كنت أبكي والنوى لا أظنه ... بنا وبكم لم ندر ما البين صانع
وأهجركم هجر البغيض وحبكم ... على كبدي منه كلوم صوادع
فواكبدي من شدة الشوق والأسى ... وواكبدي إني إلى اللّه راجع
واعجل للاشفاق حتى يشفني ... مخافة شحط الدار والشمل جامع
واعمد للأرض التي من ورائكم ... لترجعني يوماً إليك الرواجع
فيا قلب صبراً واعترافاً لما ترى ... ويا حبها قع بالذي أنت واقع
لعمري لمن أمسى وأنت ضجيعه ... من الناس ما اختيرت إليه المضاجع
ألا تلك لبنى قد تراخى مزارها ... وللبين غمّ ما يزال ينازع
إذا لم يكن إلا الجوى فكفى به ... جوى حرق قد ضمنتها الأضالع
أبائنة لبنى ولم تقطع المدى ... بوصل ولا صرم فييأس طامع
نهاري نهار الوالهين صبابة ... وليلى تنبو فيه عني المضاجع
قد كنت قبل اليوم خلوا وإنما ... تقسم بين الهالكين المصارع
ولولا رجاء القلب أن يعطف النوى ... لما حملته بينهنّ الأضالع
له وجبات أثر لبنى كأنها ... شقائق برق في السحاب لوامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدى ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني بالليل والهم جامع
إذا نحن أنفدنا البكاء عشية ... فموعدنا قرن من الشمس طالع
وللحب آيات تبين للفتى ... شحوب وتبري من يديه الأشاجع
وما كل ما منيت نفسك خالياً ... تلاقي ولا كل الذي أنت تابع
تداعت له الأحزان من كل وجهة ... فحن كما حن الطيور السواجع
أراك اجتنبت الحي من غير بغضة ... ولو شئت لم تجنح إليك الأصابع
كأن بلاد اللّه ما لم تكن بها ... وإن كان فيها الناس قفر بلاقع
ألا إنما أبكي لما هو واقع ... وهل جزع من وشك بينك نافع
أحال عليّ الدهر من كل جانب ... ودامت ولم تقلع على الفجائع
فمن كان محروقاً غدا لفراقنا ... مذ الآن فليك لما هو واقع