حديث لا تسبوا أصحابي
وقال -صلى الله عليه وسلم-: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه .
رواه البخاري ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد في فضائل الصحابة ورواه ابن حبان في صحيحه، وأبو داود .
وهذا الحديث حديث عظيم، يبلغ من المؤمن العجب. النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تسبوا أصحابي فالحديث له سبب. والحديث رواه الشيخان - البخاري ومسلم رحمهما الله - في كتابيهما، الذيْن هما أصح الكتب بعد كتاب الله - عز جل -.
وسبب الحديث أنه حصل شيء من الكلام والأخذ والمرادة بين صحابيين جليلين: أحدهما عبد الرحمن بن عوف والثاني خالد بن الوليد حصل بينهما شيء من الكلام، وعبد الرحمن بن عوف كان ممن أسلم قبل الفتح، قبل صلح الحديبية، وخالد بن الوليد أسلم بعد صلح الحديبية.
وصلح الحديبية سُمي فتحا، سماه الله فتحا في قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لماذا سُمي فتحا؟ لأنه بعد صلح الحديبية استقرت الأحوال. عقد الصلح بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس، وصار المشركون يأتون إلى المسلمين ويسمعون القرآن، فأسلم جم غفير.
وتفرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتح خيبر وفتحت خيبر ثم نقض المشركون العهد بعد سنتين، فقاتلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- غزاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وفتح مكة، فالله تعالى سماه فتحا مبينا؛ لما يعقبه من النصر.
وفتح مكة أيضا فتح إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا وسماه الله فتحا في قوله: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى لا يستوي من أنفق ماله وجاهد في سبيل الله قبل صلح الحديبية، ومن أنفق وجاهد بعد الصلح.
صلح الحديبية حد فاصل بين السابقين الأولين من المهاجرين من أسلم قبل صلح الحديبية هو من السابقين الأولين، ومن أسلم بعد صلح الحديبية ليس من السابقين الأولين.
فالصحابة على مراتب. وهناك أيضا بعض الصحابة أسلموا بعد فتح مكة ويسمون الطلقاء، منهم أبو سفيان ومعاوية وابنه يزيد فصارت المراتب كم؟ السابقون الأولون من الصحابة الذين أسلموا قبل صلح الحديبية. ثم يليهم من أسلم بعد الحديبية وقبل فتح مكة ثم يليهم من أسلم يوم الفتح، ثلاث مراتب.
السابقون الأولون الذين أسلموا قبل صلح الحديبية منهم عبد الرحمن بن عوف أسلم قبل صلح الحديبية، من السابقين الأولين. وخالد بن الوليد أسلم بعد صلح الحديبية، ليس من السابقين الأولين.
فلما حصل شيء من سوء التفاهم بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد وسَبَّ خالدٌ عبدَ الرحمن بن عوف النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى خالدا عن سب عبد الرحمن وقال لخالد لا تسبوا أصحابي يعني: المتقدمين في الصحبة، وإن كان خالد من الصحابة.
لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى من له صحبة أخرى أن يسب من له صحبة أولى، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: إن خالدا بن الوليد لو أنفق مثل أحد ذهبا في سبيل الله، وأنفق عبد الرحمن بن عوف مدا أو نصف المد، ما لحق خالد عبد الرحمن بن عوف ؛ للتفاوت العظيم الذي بينهما.
المد ما هو؟ ملء كفي الرجل المعتدل. المد: ملء كفي الرجل المتوسط اليدين، اللتين ليستا بالكبيرتين ولا بالصغيرتين، يقال له: مد. والصاع أربعة أمداد، والنصيف يعني: النصف. فخالد بن الوليد لو أنفق مثل أحد ذهبا، وأنفق عبد الرحمن مدا -ملء الكف- أو نصف المد، لسبق عبدُ الرحمن خالدا.
لماذا؟ لأن عبد الرحمن من السابق الأولين، وخالد من المتأخرين في الصحبة. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب خالدا يقول: لا تسبوا أصحابي المتقدمين، مَن لهم صحبة أولى. يخاطب مَن له صحبة أخرى.
لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده... أقسم عليه، وهو الصادق وإن لم يقسم، لكن لتأكيد المقام. فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم... أيها المتأخرون في الصحبة. مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم... مد السابقين الأولين ولا نصيفه .
فإذا كان هذا التفاضل بين الصحابة -بين السابقين الأولين، وبين من أسلم بعد صلح الحديبية- فكيف التفاضل بين من أسلم بعد صلح الحديبية، ومن أسلم يوم الفتح؟ فكيف التفاضل بين الصحابة ومَن بعدَ الصحابة ؟! لا يعلم إلا الله مقدار التفاضل.
فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب خالدا ويقول: لا تسبوا أصحابي فلا يمكن أن تبلغ ما بلغوا، فكيف بمن جاء بعد الصحابة من التابعين ومَن بعدهم؟ فكيف بمن يسب الصحابة ؟ ! هذا يدل على أن الأمر عظيم، وأن سب الصحابة أمر جلل، أمر خطير، ليس بالأمر الهين.
وفيه التحذير من سب الصحابة والواجب الترضي عليهم، الترضي عن الصحابة وإنزالهم منازلهم، ومعرفة فضلهم وسابقتهم، وجهادهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبليغهم ونشرهم لدين الله - عز وجل - والواجب تولِّيهم، والترحم عليهم، واعتقاد أنهم أفضل الناس، وأنهم خير الناس.
وأنهم أفضل الناس بعد الأنبياء وأنه لا كان ولا يكون مثلهم، وأنه لا يمكن أن يبلغ منزلتهم أحد من بعدهم، وأن ما صدر منهم من هفوات فهم ما بين مجتهد مصيب له أجران، وبين مجتهد مخطئ له أجر، وخطؤه مغفور.
وما يُروى من الأخبار في حق الصحابة فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: أن كثيرا مما يروى في حق الصحابة كذب، لا أساس له من الصحة. هذا قسم وقسم له أصل لكن زيد فيه ونقص. وقسم صحيح، والصحيح هم ما بين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مجتهد مخطئ له أجر واحد.
ثم الذنوب المحققة التي تصدر من الصحابة فهناك أسباب للمغفرة، قد يغفر لأحدهم ما لا يغفر لغيره. فإذا كان الإنسان من سائر المسلمين يغفر له بالتوبة، يغفر له بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- يغفر له بالحسنات، فالصحابة أولى. فالذنوب المحققة للصحابة قد يغفر لأحدهم بفضله، وجهاده مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وسابقته للإسلام.
وقد يغفر له بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي هم أولى الناس بها، وقد يَمنّ الله عليه بالتوبة، وقد يغفر له بالحسنات الماحية، أو المصائب. فكيف -بعد هذا- يأتي قوم في آخر الزمان، ويسبون الصحابة ويكفرونهم؟ نسأل الله السلامة والعافية.