السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إليكم هذه القصة المؤثرة..
___________________________________________
كنت أقوم بالمرور اليومي على المرضى في غرفة العناية المركزة في ذلك المستشفى الكندي الذي
كنت أتابع فيه الدراسة الطبية العليا ، لفت انتباهي اسم المريض في السرير رقم 3 ، إنه محمد ...
نظرت إليه مليا ، أتفحص ملامحه وأتأمل قسمات وجهه الذي كاد يتوارى تحت أنقاض الانابيب واجهزة الانعاش .
إنه شاب في الخامسة والعشرين من العمر مصاب بمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ،
أدخل إلى المستشفى قبل يومين بالتهاب حاد في الرئة وحالته خطرة جدا وشبه ميئوس منها .
لم يكن هذا أول مريض مسلم في بلاد الغرب أعالجه ، ولكني أحسست نحوه بشعور خاص لا أعرف سببه .
بعد انتهاء المرور الصباحي ، اختلست لحظات واقتربت من هذا الشاب ، حاولت أن أكلمه برفق ، إنه يسمعني ،
ولكنه لايستطيع أن يكلمني إلا بكلمات غير مفهومة . اتصلت ببيته ، ردت علي أمه ، يبدو أنهم من أصول عربية لبنانية ،
أبوه تاجر كبير في المدينة يمتلك محلات حلويات .
شرحت للأم حالة ابنها ، وأثناء حديثي معها بدأت أجراس الانذار تتعالى بشكل مخيف من الاجهزة الموصلة بذلك
الفتى مؤشرة على هبوط حاد في الدورة الدموية ، ارتبكت في حديثي مع الأم، قلت لها:
لابد أن تحضري الان ، قالت: أنا مشغولة في عملي سوف أحضر بعد انتهاء الدوام ، قلت لها :
ربما يكون الوقت متأخرا عندها وأغلقت السماعة .
بعد نصف ساعة طلبت مني الممرضة ان أحضر للقاء والدة المريض .
إمرأة في متوسط العمر ، لا تبدو عليها مظاهر الاسلام ، بدت مضطربة حاولت تهدئتها ، قلت لها :
اسألي الله له الشفاء ، نظرت إلي بدهشة ، ماذا قلت ؟
قلت تعلقي بالله واسألي له الشفاء ، قالت أنت مسلم ؟ قلت : الحمدلله ، قالت: نحن مسلمون كذلك .
قلت : ماشاء الله ، لماذا لاتذهبين عند رأسه وتقرأين عليه شيئا من القران لعل الله أن يخفف عنه ،
انتفضت بارتباك وقد انفرطت في بكاء مرير ، قالت : لا أعرف ، قلت : كيف تصلين ؟
قالت : نحن لا نصلي إلا في العيد منذ أن أتينا إلى هذا البلد ، ولكني أذهب لزيارة أضرحة أجدادي في لبنان كل عامين ،
وأدعو لهم دون علم زوجي ، أنا إمرأة متدينة .
سألتها عن حال ابنها ، قالت : كان طيب القلب يحب الحياة ، ولكنه انحرف قليلا في السنة الماضية مع تلك الفتاة التي استولت عليه ،
وكان حاله على أحسن مايرام ! قلت : هل كان يصلي ؟ قالت : لا ، ولكنه كان ينوي أن يحج في آخر عمره .
اقتربت من الفتى المسكين وهو يعالج سكرات الموت ، أجهزة المنبه تتعالى ، الأم تبكي بصوت مسموع ،
الممرضات ينظرن بدهشة ، جاهداً حاولت أن ألقن الفتى الشهادتين ، الفتى لا يستجيب ، عاودت المحاولة مرات عديدة ،
بدأ الفتى يفيق شيئا ما ، قل لاإله إلا الله ، الفتى يحاول بكل جوارحه ، الدموع تفتر من أطراف عينيه ، وجهه يتغير إلى السواد ،
قل لاإله إلا الله ، لقد بدأ يتكلم بصوت خافت مرتجف : آه ، آه ، ألم شديد ، أريد مسكنا للألم .
قل لاإله إلا الله ، الفتى يحاول شفتاه ترتجفان ، ياإلهي سينطقها الان .
(I can't , Ican't ) ، أريد صديقتي ، أريد صديقتي ، لا أستطيع ،
النبض يتناقص والتنفس يتلاشى ، لم أتمالك نفسي ، أخذت أبكي بحرقة ،
وأعاود المحاولة : أرجوك قلها . لا أستطيع . توقف النبض وأنا ممسك بيد الفتى في ذهول تام ، والأم مرتمية على صدره تصرخ ،
ووجه الفتى غطاه سواد كالح . لم أتمالك نفسي ، نسيت كل الأعراف الطبية وذهلت من حساسية الموقف ، انفجرت صارخا في الأم:
انت المسئوولة ، أنت وأبوه ، ضيعتم الأمانة ، ضيعكم الله ، الأم تبكي في ذهول .
(( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم، ساء مايحكمون )) . الجاثية 21
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله فيما يريده من معاصي الله ،
فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟ وجمع الشيطان عليه كل قوته وهمته ، لينال منه فرصته ، فأقوى مايكون عليه شيطانه ذلك الوقت ، وأضعف مايكون هو في تلك الحال ، فمن ترى يسلم من ذلك ؟ فهناك (( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله مايشاء )) .
كتبه : د.أيمن بن أسعد عبده
مجلة الأسرة العدد 81 ذو الحجة 1420 هـ ص 48 .
عنوان المقال : اللحظات العصيبة .