بسم الله الرحمن الرحيم
عناصر الموضوع:
1 مفهوم الحجاب
2 الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب
3 شروط الحجاب الشرعي
4 شبهات والرد عليها
الحجاب يا أختاه!
إن الإسلام الحنيف حريص على حفظ المرأة في أرفع المقامات، فهو يحفظ لها مكانتها في مجتمعها، ويحجبها عما يزري بكرامتها، ويهدم وظيفتها التي خلقت من أجلها، فشرع لها الحجاب الذي يستر جميع جسمها ووجهها، لتتقي به شر الفتنة. ولقد أمر الله به أفضل نساء الدنيا زوجات نبينا، فكان الأحرى أن تلتزم به من دونهن من نساء المؤمنين.
مفهوم الحجاب
رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله .. الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيءٍ قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة عن هذه الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، ومع الدرس الخامس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور. وما زلنا بفضل الله جل وعلا نتحدث عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام العظيم حمايةً لأفراده من الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله، ولقد تكلمنا في اللقاء الماضي عن الضمان الثاني، ألا وهو تحريم التبرج وفرض الحجاب، وقلنا بأن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمعٍ طاهرٍ نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دوافع اللحم والدم في كل حين؛ لأن عمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعارٍ شهوانيٍ لا ينطفئ ولا يرتوي. إن اللحم العاري، والزينة المتبرجة، والرائحة المؤثرة، والنبرة المعبرة، والمشية المتكسرة، كلها من الأشياء التي تثير الشهوة، وتؤجج نار الفتنة والهوى. لذا أيها الأحبة: من هنا حرم الإسلام التبرج، وفرض الحجاب على المرأة المسلمة .. لماذا؟ ينبغي أن تعلم المسلمة وأن يعلم الناس جميعاً أن الإسلام ما فرض هذه الضوابط على المرأة المسلمة في ملبسها وزينتها وعلاقتها بالرجال إلا لصيانتها وحمايتها من عبث العابثين، ومجون الماجنين، ولتكون المرأة المسلمة كالدرة المصونة، وكاللؤلؤة المكنونة التي لا تصل إليها الأيدي الآثمة. تكلمنا في اللقاء الماضي عن التبرج ومظاهره وخطورته، ولقاؤنا اليوم عن الشق الثاني من الضمان الثاني ألا وهو فرض الحجاب على المرأة المسلمة، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في أربعة عناصر:
أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً.
ثانياً: الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب.
ثالثاً: شروط الحجاب الشرعي.
رابعاً: شبهات والرد عليها.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الصواب والإخلاص والتوفيق. ......
معنى الحجاب في اللغة
أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً:
أحبتي في الله! الحجاب: جمعه حُجب، ومعناه لغةً يدور بين الستر والمنع، لذا يقال للستر الذي يحول بين الشيئين حجاباً؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما،
ولذا يقال لحجاب المرأة: (حجاب) وسمي حجاب المرأة حجاباً لأنه يستر المرأة عن الرؤية، ويمنع الرجال من أن يشاهدوا أو أن ينظروا إلى المرأة. ووردت لفظة الحجاب في القرآن في ثمانية مواضع، وكلها تدور حول هذا المعنى -أي: حول معنى الستر والمنع- كما قال الله جل وعلا في سورة الأعراف: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف:46]
أي: بينهما سورٌ يمنع الرؤية، أو حاجزٌ يمنع الرؤية، وكما قال الله جل وعلا: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32] أي: حتى منعت هذه الخيول من الرؤية، وأصبحت لا ترى، وكما قال الله جل وعلا: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً [مريم:17] على مريم عليها السلام، أي: استترت مريم بستارٍ عن أعين الرجال، وكما قال الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]
أي: من وراء ساترٍ أو حاجزٍ أو حائلٍ يمنع من رؤيتهن. إذاً: فالحجاب يدور بين معنى الستر والمنع، ولذا يُفهم المعنى الشرعي من هذه المعاني اللغوية لحجاب المرأة المسلمة بأنه الذي يحجب المرأة المسلمة عن نظر الرجال الأجانب، وله صورٌ متعددة هي:
صورة الأبدان وصورة الوجوه، أي حجاب الأبدان، وحجاب الوجوه.
وللمرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب ببيتها، وبالستائر السميكة بداخل البيت، وللمرأة أن تحتجب بثيابها من رأسها إلى قدمها إذا ما خرجت من بيتها لحاجةٍ ضرورية، أو دينية، أو دنيوية، وهذا جائزٌ في حقها ولا إثم عليها إذا خرجت بشروط الحجاب الشرعي التي سأبينها إن شاء الله جل وعلا، مع غطاء الوجه بالحجاب، أو الخمار، أو النقاب. وهذا ما يسميه علماؤنا بحجاب الوجه.
بعض الأخطاء في مفهوم الحجاب
الخمار:
وانتبهوا معي إلى أن هناك خلطاً بين هذه المعاني عند كثيرٍ من الناس، فالخمار عندنا مثلاً يراد به الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها ويظهر منها الوجه، وهذا خطأٌُ لغوي،
ويقال أيضاً للحجاب عندنا، وهذا ما ذكره بعض أهل العلم في كتبهم، قالوا: بأن الحجاب هو الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها، ويظهر منه الوجه أيضاً وهذا خطأٌ لغوي، فانتبهوا معي لنتعرف على معنى الخمار وعلى معنى النقاب، حتى نضع النقط على الحروف من بداية هذا اللقاء.
الحجاب بمفهومه الصحيح
الخمار أيها الأحبة -وربما سيعلم ذلك لأول مرة كثيرٌ من المسلمين والمسلمات- هو ما تخمر به المرأة وجهها. من أين لك بهذا التأويل والتفسير؟ من كتاب الله جل وعلا، ومن أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال أئمة الهدى ومصابيح الدجى عليهم رحمة الله، يقول الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31].
قال الحافظ ابن حجر إمام أهل الحديث في الفتح في تعريف الخَمْر: ... ومنه خمار المرأة، وهو الذي تخمر به المرأة وجهها -أي: تغطي به المرأة وجهها- وأعظم دليلٍ على صحة هذا الكلام ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها،
وهل تريدون أوضح من هذا؟ هل تريدون دليلاً أوضح من دليلٍ ورد في حديثٍ رواه البخاري و مسلم من حديث أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟ أتدرون ماذا قالت أمنا رضي الله عنها في حادثة الإفك؟
تقول السيدة عائشة : لما رآها صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، لما تخلفت عن الجيش، ونامت وجاء صفوان فوقعت عينه عليها، وكان صفوان بن المعطل يعرف السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنه كان قد رآها مراراً قبل نزول آية الحجاب، فلما رآها صفوان وعرفها استرجع، أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رأى زوج نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم تخلفت عن الجيش، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. تقول سيدتنا عائشة : (فلما رآني عرفني، وكان يعرفني قبل الحجاب، فلما رآني استرجع -أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- تقول عائشة رضي الله عنها: فاستيقظت باسترجاعه)
أي صحت سيدتنا عائشة على قولته: إنا لله وإنا إليه راجعون. اسمع ماذا قالت أمنا رضي الله عنها؟ قالت: (فاستيقظت باسترجاعه، وحين عرفني خمرت وجهي بجلبابي)
فخمرت وجهي بجلبابي: هذا هو معنى الخمار في حديثٍ في الصحيحين فماذا تريدون بعد ذلك من أدلة!!
قالت: (فخمرتُ وجهي بجلبابي) وفي راويةٍ:
(فسترت وجهي بجلبابي) أي: خمرت.
ويؤكد ذلك أيضاً حديث فاطمة بنت المنذر رضي الله عنها ورحمها الله تعالى، تقول: (كنا نخمر وجوهنا من الرجال في الإحرام مع أسماء بنت أبي بكرٍ ) رضي الله عنها، وحديثها رواه الإمام مالك في الموطأ ورواه الحاكم في المستدرك،
وقال الحاكم: حديثٌ صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي.
إذاً: الخمار -أيها الأحبة- هو ما تخمر به المرأة وجهها، أي: ما تغطي به المرأة وجهها.
النقاب الشرعي
أما النقاب:
فهو حجابٌ للوجوه أيضاً، وسمي النقاب بالنقاب؛ لوجود نقبين بمحاذاة العينين لتتعرف المرأة من خلال هذين النقبين على الطريق.
ولكن: ينبغي أن أنبه هنا إلى أمرٍ خطير، ألا وهو أن بعض المسلمات اللائى يلبسن النقاب، قد حولنه هو الآخر إلى مصدر فتنةٍ وإغواءٍ وإغراء، كيف ذلك؟ وسعت المرأة فتحة العين على وجهها، فظهر من خلال هذه الفتحة حاجبها، وظهر جزءٌ كبيرٌ من وجنتيها، وهذه هي الفتنة بعينها. وليس معنى أن كثيراً من النساء قد حولن النقاب إلى مصدر فتنةٍ وإغراءٍ وإغواء أن نقول بعدم شرعية النقاب، فليس معنى أن يختل المسلمون في تطبيق أمرٍ أو جزءٍ شرعي أن نلغي هذا الجزء، وإنما ينبغي أن يؤمر المسلمون بأن يردوا هذا الأمر إلى ما أراده الله، وإلى ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيجب على المرأة التي انتقبت أن تظهر من عينها بمقدار الرؤية، وأن تظهر الفتحة لعينها لتتعرف من خلالها على الطريق، أما أن تتفنن في أن تظهر جمال عينها، وقد امتلأت كحلاً وجمالاً وفتنةً وتأثيراً، وظهر حاجبها وجزءٌ كبيرٌ من وجنتيها، وتدعي بأنها منتقبة، فإنما هي خادعة أو مخدوعة، فينبغي أن تتوب وأن ترجع إلى الله جل وعلا، وأن تتقي الله، وأن تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. هذا هو الخمار، وذاك هو النقاب، وهذا هو معنى الحجاب. إذاً: هناك حجابٌ للأبدان وللوجوه معاً، إما من وراء ستارةٍ سميكة أو من وراء جدار كما قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]
أو إذا خرجت المرأة من بيتها لحاجةٍ دينية أو دنيوية فعليها أن تلبس الثياب من رأسها إلى قدميها، وأن تغطي وجهها بالخمار أو النقاب، بالشروط والضوابط التي أشرت إليها آنفاً.
الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب
أولاً: أدلة القرآن: ......
الدليل الأول: قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك ...)
وهي قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:59]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهل تعرف المرأة إلا من وجهها؟ انتبهوا معي أيها الأحبة، وانتبهن معي أيتها الفضليات؛ لنتعرف على هذه الآية، وعلى ما تحمله من أحكامٍ عظيمة غابت عن كثيرٍ من المسلمين والمسلمات: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59]
إذاً: الأمر هنا من الله جل وعلا لزوجات النبي الطاهرات، وبنات النبي العفيفات، ونساء المؤمنين الصالحات القانتات، ليس الأمر هنا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن كما هو واضحٌ بمنطوق الآية ومفهومها أيضاً. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير آية الإدناء، واحفظوا هذا القول لـابن عباس رضي الله عنه؛ لأنه قد افتري عليه قولٌ آخر، وقد ادعي عليه ما لم يقله وهو بريءٌ منه كما سنرى بالأدلة وبطرق أهل الحديث إن شاء الله جل وعلا، قال: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة]
أي: لتتعرف بها على الطريق. ويقوي هذا الإسناد ما صح عن ابن سيرين رحمه الله تعالى عن عبيدة السلماني ، و عبيدة السلماني هو التابعي الجليل الفقيه العلم الذي آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم ينزل المدينة إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل عبيدة السلماني بـالمدينة حتى توفاه الله جل وعلا، وأنا تعمدت أن أقول ذلك لتعلم أنه إن فسر عبيدة السلماني آية الإدناء تفسيراً عملياً، فإنما هو يوضح حال نساء أصحاب النبي رضي الله عنهن جميعاً، ويوضح ما كان عليه النساء في عهد الصحابة رضي الله عنهم، يقول ابن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن معنى آية الإدناء وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]
فقال عبيدة بثوبه هكذا، فغطى وجهه بثوبه، وأبرز بثوبه عن إحدى عينيه، توضيحٌ عملي من تابعيٍ جليلٍ عاش في المدينة المنورة من عهد عمر بن الخطاب إلى أن مات رحمه الله. فقال بثوبه هكذا، فغطى رأسه ووجهه بثوبه وأبرز الثوب عن إحدى عينيه، تفسيرٌ عملي لآية الإدناء، ووالله إنه من أعظم الأدلة من تابعيٍ رأى ما كان عليه النساء في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].
وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورةٌ بستر وجهها عن الأجانب، وإظهار الستر والعفاف إذا خرجت لحاجة حتى لا يطمع أهل الريب فيها. من العلماء من يقول: بأن الصحابيات رضي الله عنهن كنّ يخرجن كاشفات الوجوه، وهذا والله بهتانٌ عظيم؛ لأن الوجه أيها الأحبة هو أصل الجمال في المرأة، وأنا أسألك: بالله عليك أيها المسلم المنصف، لا أريد منك جواباً وإنما أريدك أن تجيب أنتَ بنفسك على نفسك في جلسة صدقٍ ولحظة صدقٍ مع الله جل وعلا: أسألك بالله لو أن شاباً تقدم لخطبة فتاة، وقيل له لن ترى الفتاة إلا في صورةٍ من الصورتين، فقال الشاب ما هما: قالوا:
الصورة الأولى: أن تخرج الفتاة في كل زينتها وقد غطت وجهها أي: غطت بدنها بالثياب، وغطت وجهها، إلا أنها من تحت هذه الثياب، ومن تحت هذا الغطاء وضعت كل ما يمكن أن تضعه المرأة من زينة ... سبحان الله!! وماذا استفاد هذا المسلم؟ إذاً ما رأى شيئاً وما استفاد من تلك الزينة شيئاً.
الصورة الثانية قالوا: أن تقف لك الفتاة من خلف نافذة، وتنظر لك بوجه مبتسم وقد يتغطى كل البدن من خلف جدار هذه النافذة، بشرط أن تظهر الوجه فقط، فبالله عليك ماذا يختار الشاب؟ هل يختار الحالة الأولى التي خرجت إليه المرأة في كل زينتها وقد تغطت من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وغطت وجهها؟ أم أنه يريد أن ينظر إلى الوجه؛ لأنه هو عنوان الجمال الخلقي في الإنسان، ومن خلاله يستطيع الإنسان أن يتبين الجمال أو القبح، والدمامة أو النضارة
فيقول بالمنطق -وهذا لا يحتاج إلى دليل-
يقول: لا. أريد الصورة الثانية، والحالة الثانية، ألا وهي أن ينظر إلى وجه المرأة ليتعرف من خلال وجهها على جمالها، وقبحها، أو دمامتها، وهذا لا يحتاج إلى دليل، وإن كل منصفٍ لم يمت إنصافه في قلبه -فيعمى بذلك قلبه وعقله- سيقول هذا. إذاً أيها الأحباب: الله تبارك وتعالى هنا يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين جميعاً بالحجاب الساتر لجميع الجسم، ومن العلماء من قال: بأن الحكم هنا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، قلتُ: سبحان الله! كيف يكون الحكم خاصاً بزوجات النبي والله تبارك وتعالى يقول في نفس الآية: وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59]، ويقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي الآية قرينةٌ واضحة ٌعلى وجوب ستر الوجه، ما هي هذه القرينة؟ يقول: هي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ [الأحزاب:59] ومعلومٌ أن وجوب احتجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسترهن لوجوههن أمرٌ لا نزاع فيه بين المسلمين، فكيف تستقيم دعوى الخصوصية لنساء النبي وحدهن والله تعالى يقول في الآية: وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59] وهذا واضح. وأكتفي بذلك القدر في هذه الآية؛ لأن الموضوع طويل.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً...)
يقول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53].
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]
لماذا؟ ما هي العلة من فرض الحجاب بين الرجال والنساء؟ قال الله تعالى الخالق وهو الذي يعلم من خلق.. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] وقال جل وعلا: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]
هذه هي آية الحجاب، وهي معنىً واضح في وجوب احتجاب النساء عن الرجال، ولكن من العلماء أيضاً من قال -وإنا لله وإنا إليه راجعون- بأن هذه الآية خاصةٌ بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن.
قلتُ: إن كانت الآية خاصةً بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامةٌ من جهة الأحكام،
والقاعدة الأصولية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولو فهمنا كل أوامر القرآن هكذا، بأنه لو جاء أمرٌ خاص لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا إذاً: هو لزوجات النبي وحدهن، لو جاء أمرٌ خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قلنا إذاً: هو للنبي وحده دون سائر المؤمنين ... لو كان الأمر كذلك لعطلنا معظم أوامر ونواهي القرآن. وبالله عليكم أيها الأحبة: هل تظنون أن الله جل وعلا لو أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله في أول سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]
هل يقول عاقل بأنه لا يجب علينا أن نتقي الله لأن الأمر هنا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل لو أمر الله نبيه بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73]
هل يقول عاقل بأنه لا يجب علينا أن نجاهد الكفار والمنافقين؛ لأن الأمر هنا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهل لو أمر الله المؤمنين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53]
هل يقول عاقل بأنه يجوز لهم أن يدخلوا غير بيوت النبي من غير أن يؤذن لهم. إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا ما قال به علماؤنا، فالحكم هنا أيها الأحباب: إن كانت الآيات خاصةً بزوجات النبي الطاهرات من ناحية السبب فهي عامةٌُ من ناحية الأحكام، وإلا فبالله عليكم اسألوني: ما هي العلة في فرض الحجاب؟ سأجيب: بأن العلة من فرض الحجاب بنص الآية هو قوله تعالى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]
أتدرون لمن هذا الأمر؟ إنه لنساء النبي الطاهرات، ولأشرف نساء العالمين، ولأطهر نساء الدنيا اللائى تربين في بيت النبوة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللائى شربن من نبع الوحي الزلال الصافي، وهن المطهرات من السفاح، والمحرمات علينا بالنكاح، والموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين؛ يأمرهن الله بالحجاب حمايةً لقلوبهن، وطهارةً لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن،
فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح، هل يجوز أن يخرجن، أو أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! الأولوية في هذه الآية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ لأنه إذا أمرت عائشة بالحجاب فهل يترك غيرها؟ وإذا أمرت حفصة بالحجاب طهارةً لقلبها وهي حفصة فهل يترك غيرها؟ أو فهل نترك غيرها؟ وإذا أمرت أم سلمة بالحجاب طهارةً لقلبها فهل نترك غيرها؟ وإذا أمرت سودة ، و زينب ... وغيرهن رضي الله عنهن بالحجاب فهل نترك غيرهن؟ إن دليل الأولوية واضحٌ في هذه الآية، وهذا المسلك في القرآن معلومٌ عند أهل الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه. إن الأمر بيِّن؛ إن الأمر واضح: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] لماذا؟! ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن...)
وهي قول الله جل وعلا: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31].
يستدل العلماء من هذه الآية بثلاث مواضع وهي: الموضع الأول: هو قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] أعيروني القلوب والأسماع أحبتي في الله، يقول الله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]
بغير قصدٍ وعمدٍ بل وهي مضطرة لإظهاره رغماً عنها، ألا وهو ظاهر الثياب، فإن الثياب على بدن المرأة زينة وأي زينة؟ إلا ما ظهر منها: ظاهر الثياب، وحتى لا نتهم بأننا نتعسف في لي أعناق الآيات لياً فتعالوا بنا إلى صحابيٍ جليلٍ، وعلم من أعلم الصحابة بكتاب الله جل وعلا، ما من آية نزلت إلا وهو يعلم متى نزلت وأين نزلت وفيم نزلت، إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ماذا قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية، والإسناد صحيحٌ إن شاء الله جل علا؟ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]
قال: الثياب] هذا قول ابن مسعود: زينة المرأة الظاهرة الثياب، وهذا ثابت عنه بإسناد صحيح. أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في أنه قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]
قال: [الوجه والكفان] فإسناده إلى ابن عباس لا يصح بحال كما هو معروف لعلماء الحديث وعلماء التخريج ... لماذا؟ لأن هذا الأثر المروي عن ابن عباس ورد
من طريقين:
الطريق الأول: رواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري .
الطريق الثاني: أخرجه الإمام البيهقي في السنن الكبرى ،
فتعالوا بنا نقف مع هذين الإسنادين لنتعرف على صحتهما من ضعفهما؛ حتى يتضح لنا أن هذا القول لا يصح إسناده بحالٍ إلى ابن عباس رضي الله عنهما. أما الطريق الأول: وهو الذي أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في التفسير: هذا لا يصح بحال؛ لأنه إسنادٌ ضعيفٌ جداً، بل هو منكر؛ لأن في رجاله مسلم الملائي الكوفي ، قال فيه البخاري : تكلموا فيه، وقال الحافظ الذهبي : ضعفوه، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب : ضعيف، وقال يحي بن معين : ليس بثقة، وقال النسائي : متروكٌ الحديث. إذاً: الإسناد بهذا الطريق لا يصح بحال كما هو معلوم لكل علماء الحديث. أما الإسناد الآخر الذي أخرجه الإمام البيهقي ، فهو ضعيف جداً أيضاً؛ لضعف راويين من رجال سند هذا الطريق الثاني: أحدهما أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب : ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي : ضعيف. أما الرجل الثاني فهو عبد الله بن هرمز بن مسلم بن هرمز ، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين و النسائي. إذاً: الإسنادان لا يصحان بحال، ولا يصح أن يحتج بهما في المتابعات والشواهد فضلاً عن أن يحتج بهما عالمٌ في أمرٍ من الأمور الواجبة كما هو معلومٌ لكل طالب علمٍ مبتدئٍ في علم الحديث. إذاً: لا يصح الإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما في أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، ويؤكد صحة ذلك ما ذكرته في أول اللقاء، حينما فسر آية الإدناء بقوله: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة].
إذاً: الزينة الظاهرة هي الثياب، وهي ما يظهر من المرأة من غير عمدٍ وعلى حين غفلةٍ من المرأة، ومن علم أحوال النساء علم ذلك جيداً، إذا هبت ريح فتكشف وجه المرأة، أو اضطرت المرأة حين شرائها وبيعها لتكشف عن وجهها الغطاء فنظر رجلٌ خلسةً إلى وجهها على حين غرة منها، هذه زينةٌ تظهر من المرأة من غير عمد ومن غير قصد، وهي بإذن الله لا تؤاخذ عليها بدليل قول الله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31].
الموضع الثاني في الآية: هو قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]
وأوضحنا ذلك بأنه ضرب الخمار على الوجه وتغطية الوجه، بدليل حديث عائشة الذي رواه البخاري و مسلم : (فخمرت وجهي بجلبابي) وبدليل حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام) والحديث رواه مالك ، وصححه ابن خزيمة و ابن حبان ، ورواه الحاكم في المستدرك من طريقه، وقال: حديثُ صحيح على شرط الشيخين البخاري و مسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي على ذلك. ويؤكد ذلك أيضاً قول فاطمة بنت المنذر رحمها الله تعالى الذي أشرت إليه آنفاً،
قالت: (كنا نخمر وجوهنا من الرجال ونحن مع أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها) والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك أيضاً من طريقه، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين البخاري و مسلم ، وأقره الذهبي على ذلك. إذاً: أيها الأحبة! وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]
المفهوم من ضرب الخمار: هو أن تضرب المرأة الخمار من على رأسها على وجهها، وما سميت الخَمْر خَمْراً إلا لأنها تغطي العقل، وقال الحافظ ابن حجر في تعريف الخَمْر: ... ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها.
أما الموضع الثالث في هذه الآية فهو قوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31].
قلنا: إن كان الإسلام قد حرم على المرأة أن تضرب الأرض برجلها؛ خشية أن يفتتن الرجال بسماع صوت خلخالها، فبالله عليكم هل يحرم الإسلام على المرأة ذلك ثم يبيح لها أن تكشف وجهها الذي قد امتلأ نضارةً وجمالاً وحسناً وتجميلاً وتزييناً! أي الفتنتين أعظم، فتنة الوجه أم فتنة القدم؟! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37] ورحم الله من قال:
إن الحجاب الذي نبغيه مكرمة لكل مسلمةٍ عادت ولم تعدِ
نريد منها احتشاماً عفةً أدبـاً وهم يريدون منها قلة الأدب
يا رُبَّ أنثى لها عزمٌ لهـا أدبٌ فاقت رجالاً بلا عزمٍ ولا أدب
ويا لقبح فتاةٍ لا حياء لها وإن تحلت بغال الماس والذهبِ
إن الحجاب عفة، إن الحجاب مكرمة،
إن الحجاب شرف، إن الحجاب مروءة،
إن الحجاب إيمان، إن الحجاب طاعة،
إن الحجاب امتثالٌ لأمر الله ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيا أيتها اللؤلؤة المكنونة المسلمة! يا أيتها الدرة المصونة الغالية! والله ما نريد لك إلا العفة، ووالله ما أراد الإسلام لك إلا الكرامة وأن يحميك من عبث العابثين، ومجون الماجنين، والله لا نريد لك إلا الخير في الدنيا والآخرة:
أختاه يا بنت الإسلام تحشمي لا ترفعي عنك الحجاب فتندمي
صوني جمالك إن أردت كرامةً فالناس حولك كالذئاب الحومِ
إي والله! كالذئاب الحوم، خاصة في زمان قل فيه الإيمان والورع والزهد، وقلّت فيه التقوى، وإلى الله المشتكى، والله المستعان. وأكتفي بهذا القدر من الأدلة القرآنية أحبتي في الله.
ثانياً: الأدلة من السنة على وجوب الحجاب
أما الأدلة النبوية فهي كثيرة ولله الحمد والمنة، ووالله لو لم يكن منها إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري ، و مالك في الموطأ ، و الترمذي في السنن وقال: حديثٌ حسن صحيح، ورواه أحمد في مسنده وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)
أي: التي أهلت بالإحرام في الحج أو العمرة، لا تنتقب ولا تلبس القازين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دل هذا الحديث على أن النقاب والقفازين كانا معروفين لدى النساء اللاتي لم يحرمن، وأظنه واضحٌ جداً: لا تنتقب المحرمة، إذاً: غير المحرمة كانت في الأصل منتقبة، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم في حال إحرامها ألا تنتقب، وهو الذي نهيت عنه، وهذا هو الذي أمرت به. وفي الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان -أي: الرجال الذين يركبون الدواب- يمرون علينا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا -أي اقترب هذا الركب منا وفيه من الرجال من فيه- سدلت إحدانا جلبابها من على رأسها على وجهها، فإذا ما جاوزونا كشفناه)
والحديث للأمانة بذاته ضعيف، وله شاهدٌ قوي من حديث أسماء ، وحديث فاطمة بنت المنذر اللذين ذكرتهما آنفاً، والحديث الأول رواه مالك في الموطأ، وابن خزيمة في الصحيح، وابن حبان في الصحيح، والحاكم من طريقه في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي، والآخر رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي . أما أحاديث النظر إلى المخطوبة، فهي و أحاديث صحيحة بطرقها: الأول: كحديث محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعاً، وهذه الأحاديث تدل على أن الخاطب كان يتكلف مشقة وعناءً في النظر إلى وجه مخطوبته، وهي تجيز أيضاً للخاطب أن ينظر إلى وجه مخطوبته، سأختار منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهذا الحديث يقول فيه جابر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة؛ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال جابر بن عبد الله : فخطبت جاريةً فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها)
يقول علماؤنا: إن المرأة في هذا الزمان تخرج متبرجةً مكتحلةً متزينةً متطيبةً متعطرة ما تكلف الرجل مشقةً في أن يختبئ لينظر إلى وجه مخطوبته، بل ما عليه إلا أن يمشي إلى جوارها في الشارع، ليرى منها كل شيء كما نرى في زماننا هذا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وهكذا أيها الأحباب: إن من لم يمت إنصافه في قلبه، ومن لم يعمَ بذلك قلبه وعقله لا يحتاج إلى سرد هذه الأدلة، وإلى كل هذه الأدلة، وإنما هو بفطرته النقية الطيبة سيعلم علم اليقين أن أصل الفتنة والجمال في المرأة هو وجهها، وليعلم علم اليقين أن حجاب المرأة شرف لها قبل أن يكون شرفاً وكرامةً لأفراد المجتمع. فيا أيها الأخ الكريم! عليك بزوجتك، وبابنتك، وبأختك، وأنتِ أيتها الأخت الفاضلة الكريمة! اتقي الله جل وعلا، واعلمي أن في الحجاب الشرف، والعزة، والمنعة، والكرامة، وخيري الدنيا والآخرة، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصواب. يبقى لنا بعد ذلك أيها الأحبة أن نتكلم عن عنصرين أخيرين في هذا اللقاء ألا وهما: شروط الحجاب الشرعي وبعض الشبهات والرد عليها، وسوف أرجئ الحديث عن هذين العنصرين إلى ما بعد جلسة الاستراحة؛ لأشير إليهما في عجالةٍ سريعة. وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ولا تنسونا من صالح دعائكم بارك الله فيكم