كان رجل من أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يقال له جُليبيب ، رجل فقير معدوم جائع البطن ، حافي القدمين ، مغمور النسب ، لا جاه ، ولا مال ولا عشيرة ، ليس له بيت يأوي إليه ، ولا أثاث ، ولا متاع ، يشرب من الحياض العامة ، بكفيه مع الواردين ، وينام في المسجد ، وسادته ذراعه ، وفراشه الأرض ، وكان في وجهه دمامة ، لكنه صاحب ذكر لربه ، وتلاوة لكتاب مولاه ، لا يغيب عن الصف الأول في كل الصلوات ، ولا في كل الغزوات ، ويكثر الجلوس عند النبي ، صلى الله عليه وسلم
قال له النبي صلى الله عليه وسلم ، ذات يوم : يا جُليبيب ألا تتزوج ؟ فقال : يا رسول الله ومن يزوجني ؟! فقال رسول الله : أنا أزوجك يا جُليبيب . فالتفت جُليبيب إلى الرسول فقال : إذاً تجدُني كاسداً يا رسول الله .. فقال الرسول الكريم : غير أنك عند الله لست بكاسد ، ثم لم يزل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يتحين الفرص حتى يزوج جُليبيا ...
جاء في يوم من الأيام ، رجلٌ من الأنصار ، قد توفي زوج ابنته ، فجاء إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يعرضها عليه ، ليتزوجها النبي ، فقال له النبي : نعم ... ولكن لا أتزوجها أنا !! فسأله الأب : لمن يا رسول الله !! فقال صلى الله عليه وسلم : أزوجها جُليبيبا .. فقال ذلك الرجل : يا رسول الله ... تزوجها لجُليبيب ؟ انتظر حتى أستأمر أمها !! ثم مضى إلى أمها ، وقال لها : إن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يخطب إليك ابنتك ، قالت : نعم لرسول الله ، ومن يرد النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال لها : إنه ليس يريدها لنفسه ...!! قالت : لمن ؟ قال : يريدها لجُليبيب !! قالت : لجُليبيب ؟ لا لعمر الله ، لا أزوج جُليبيباً ، وقد منعناها فلاناً وفلاناً ... فاغتم أبوها لذلك ، ثم قام ليأتي النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فصاحت الفتاة من خدرها ، وقالت لأبويها : من خطبني إليكما ؟؟ قال الأب : خطبك رسول الله .. قالت : أفتردان على رسول الله أمره ... ادفعاني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني ! قال أبوها : نعم ..
ثم ذهب إلى النبي الكريم وقال : يا رسول الله شأنك بها ... فدعا النبي ، صلى الله عليه وسلم ، جُليبيبا ثم زوجه إياها ، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم ، كفيه الشريفتين ، وقال: اللهم صب عليهما الخير صباً ، ولا تجعل عيشهما كداً !! ثم لم يمض على زواجهما أيام حتى خرج النبي ، صلى الله عليه وسلم ، مع أصحابه في غزوة ، وخرج معه جُليبيب ، فلما انتهى القتال اجتمع الناس ، وبدأوا يتفقدون بعضهم بعضاً ، فسألهم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وقال : هل تفقدون من أحد ، قالوا : نعم يا رسول الله نفقد فلاناً وفلاناً ، ونسوا جليبيباً في غمرة الحديث ؛ لأنه ليس لامعاً ، ولا مشهوراً ، فقال صلى الله عليه وسلم : ولكنني أفقد جُليبيبا .. فقوموا نلتمس خبره ، ثم قاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال ، وطلبوه مع القتلى ، ثم مشوا فوجدوه في مكان قريب ، وقد استشهد..
فوقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام جسده المقطع ، ثم قال : أنت مني وأنا منك ، أنت مني وأنا منك .. ثم تربع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ، بجانب هذا الجسد ، ثم حمل هذا الجسد ووضعه على ساعديه ، وأمرهم أن يحفروا له قبراً .. قال أنس : فمكثنا والله نحفر القبر ، وجُليبيب ماله فراش غير ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم .. قال أنس : فعدنا إلى المدينة وما كادت تنتهي عدة زوجة جليبيب حتى تسابق إليها الرجال يخطبونها ..